مقال : لاجل اختصار الام الولادة و انتصار الثورة السورية
مجلة المنتدى الاشتراكي - لبنان
http://socialist-forum.org/sfmagazine/?q=node%2F9
مقال : لاجل اختصار الام الولادة و انتصار الثورة السورية
مجلة المنتدى الاشتراكي - لبنان
http://socialist-forum.org/sfmagazine/?q=node%2F9
غياث نعيسة
2012 / 3 / 9
اقتحم جيش النظام السوري حي بابا عمرو في حمص في اليوم الأول من شهر أذار بعد نحو شهر من الحصار و القصف. ولم تكن المقاومة البطولية للسكان و للجنود المنشقين و الثوار المسلحين مفاجئة ، لأن هذا الحي ، على شاكلة ألاف الاحياء الاخرى ، حي يقطنه المفقرون و المستغلون و المهمشون الذين لا يخافون من فقدان شيء لهم سوى قيودهم.
لقد ضجت وسائل اعلام الطغمة الحاكمة ابتهاجا ب"انتصارها" و قدمت جريمتها في سحق بابا عمرو بوصفه نصرا لها على "الارهابيين"، و هي صفة تطلقها السلطة على الجنود المنشقين و المحتجين السلميين. من جهته، اعلن العقيد المنشق رياض الاسعد اللاجئ في تركيا، و الناطق باسم الجيش السوري الحر عن ان سقوط الحي حصل نتيجة "الانسحاب التكتيكي" للأخير.
والحال، ليس هنالك من مدعاة للفخر، بل هو جريمة بشعة بحق الانسانية، ما ارتكبته قوات السلطة من جرائم و تدمير لحي يقطنه مدنيون محاصرون تماما و يتعرضون للقصف اليومي، و لا يدافع عنه سوى بضعة مئات من الثوار المسلحين بسلاح خفيف في مواجهة جيش محترف جرار. و ما الاهمية العسكرية لاجتياح حي واحد و التبجح بالنصر مع تواجد الاف اخرى ثائرة على امتداد سوريا؟ لقد جاء الرد الحاسم للجماهير الثائرة في اليوم التالي لاجتياح جيش الطغمة لحمص حيث رصد في 2 أذار 619 نقطة لانطلاق المظاهرات السلمية .فأي انتصار هذا؟
أما تصريح العقيد المنشق رياض الاسعد فهو تعبير عسكري غير موفق لوصف معركة هي اصلا غير تقليدية لأنها لا تعني مواجهة بين جيشين، بل هي حرب يشنها جيش نظامي ضد جماهير الشعب، جزء ضئيل منها يحمل السلاح الخفيف للدفاع عن نفسه. و لاشك أن سقوط حمص في ايدي جيش الطغمة هو ضربة قاسية ولكنه مجرد هزيمة في معركة واحدة من الصراع الطويل الدائر بين الجماهير الثائرة و النظام الدكتاتوري. و هذا ما يعيد، و بإلحاح، قضية ضرورة توحيد مجموعات الجنود المنشقين و المدنيين المسلحين المشتتة تحت قيادة عسكرية ميدانية واحدة تكون هي نفسها ملتزمة بالقيادة السياسية للتنسيقيات الثورية الميدانية ، فلا هيئة التنسيق للتغيير الديمقراطي تعير الامر كله اهتماما يذكر بل تركز نشاطها على العمل الدبلوماسي مع الاطراف الاقليمية و الدولية الحليفة للنظام ، و لا المجلس العسكري التابع للمجلس الوطني السوري الناشط في المنفى الذي أعلن الاخير عنه أستطاع أن يرى النور، في وقت أعلنت فيه دولتان من الدول الراعية للمجلس الوطني السوري، هما قطر و السعودية ،دعوتهما الى تسليح "المعارضة"، لتفاقم دعوتهما هذه من حالة تأرجح مواقف المجلس بين الشيء و نقيضه . فالدول الراعية للمجلس الوطني السوري لا تمتلك نفس المقاربة للوضع السوري. فدعوة حكومتي قطر و السعودية لتسليح المعارضة انما تعني عمليا بالنسبة لهما التيارات المقربة لهما و هي التيارات السلفية و الجهادية المتشددة، بينما نجد أن فرنسا و الدول الغربية معها و الى حد ما تركيا ترى، حتى هذه اللحظة، في التسليح و في هذه التيارات خطرا على استقرار المنطقة وعلى أمن دولة اسرائيل و يفضلون سيناريو اضعاف سوريا مجتمعا و دولة وتشجيع نوع ما من "الانتقال المنظم" ، ما يعني تغيير للنظام بشراكة قسم من داخل النظام نفسه.
مر عام على الثورة و النظام رغم تصدعه، لم ينهار بعد، فالانشقاقات داخل الطاقم السياسي شبه معدومة و انشقاقات العسكريين ما تزال نسبيا غير واسعة مع قليل من الضباط ذوي الرتب العسكرية الرفيعة. اذن ، يطرح السؤال التالي نفسه: ما هي الاسس الاخرى الداعمة للنظام بخلاف قوته العسكرية و اجهزته الامنية و جبهة احزابه الموالية و حلفائه الاقليميين او الدوليين، التي توفر له دعما داخليا في مواجهة الثورة الشعبية؟
لقد لاحظ اغلب المتابعين للشأن السوري الضعف النسبي للاحتجاجات التي تعرفها المدينتان الاكبر في سوريا حلب و دمشق مقارنة بحقيقة انهما مدينتان يقطنهما نحو اقل قليلا من نصف سكان البلاد . و مما لا شك فيه ان مركزة السلطة لقوات قمعها فيهما و احكام قبضتها امنيا عليهما منذ عقود يشكلان عاملا هاما في اعاقة تطور الاحتجاجات فيهما. و لكن قوات النظام و وحشيته لم تمنع نمو الاحتجاجات في مدن اخرى.
و الحال ، فان وجود طبقة اجتماعية اساسية داعمة للسلطة بل و حاضنتها يتم تغافله في اغلب التحليلات، و هو ان هاتين المدينتين تتمركز فيهما ايضا البرجوازية "الخاصة" السورية التي لا يلغي من حقيقة دعمها الواضح للنظام الدكتاتوري بعض الاخبار التي تواردت عن تبرع بعض "الاغنياء" للثورة، و هي حالات قليلة اشبه ما تكون بمحاولة لإراحة ضمائرهم.
هنالك منذ عقود نوع ما من "العقد" بين هذه البرجوازية المرتبطة عضويا بالسلطة و بين الدكتاتورية ما يزال صالحا وهو: دعوا الحكم لنا لندعكم تغتنون بلا حدود.
اذ التقى في 29 شباط وفد رسمي رفيع المستوى ضم كل من وزير الدفاع و نائبه و رئيس مجلس الامن القومي و وزير الداخلية مع ممثلي البرجوازية في حلب بناء على طلبهم و استجاب ممثلي الدكتاتورية لطلبات البرجوازية في تأمين أمنها و ازدهار اعمالها، رغم حالة المقاطعة التي يعيشها الاقتصاد السوري المتدهور و الوضع الثوري السائد. و اعلنت السلطات بعد يومين من هذا الاجتماع عن تشكيل هيئة لإقرار سياسة اقتصادية للبلاد، طبعا لا تضر بمصالح البرجوازية وخاصة مع تأزم الوضع الاقتصادي، تشمل اساسا ممثلي هذه البرجوازية مثل راتب الشلاح.
و اخيرا ، فان هذه البرجوازية هي التي تمول مليشيات الشبيحة الفاشية الموالية للنظام و تساهم في اليات التأطير الاقتصادي والاجتماعي و الايديولوجي للسكان لصالح الدكتاتورية.
في حين أن الطبقة الوسطى كانت قد عرفت تفككا حادا في العقدين الاخيرين خصوصا نتيجة السياسات النيوليبرالية التي شهدتها سوريا. انخرط جزء منها في الثورة منذ اندلاعها و لا سيما قطاعات من شرائحها الدنيا و المهمشة . بينما اتخذ قسم اخر منها ، و لا سيما شرائحها العليا، موقفا مؤيدا للنظام او بقي مترددا، و خاصة ان رب عمل غالبيتها هو الدولة نفسها ، او خشية و قلقا من التغيير و مستقبل مجهول.
في المقابل، قامت دكتاتورية عائلة الاسد منذ استلام الاسد الاب للسلطة بانقلابه عام 1970 بتشجيع و رعاية المؤسسات الدينية الرسمية الاسلامية و المسيحية. بل و شجعت، علاوة على ذلك، على انبعاث تيارات دينية "شعبية" غير مسيسة ان لم تكن موالية للسلطة . فقد شهدت البلاد بين عامي 1970 و 2000 حمى حكومية لبناء المساجد، حيث افتتح حوالي 12 ألف مسجد خلال هذه الفترة، و افتتح اكثر من الف وحدة من معاهد الاسد لتعليم القرآن في كل المحافظات السورية.
ليس غريبا اذن الموقف المؤيد للدكتاتورية الذي اتخذته المراتبية الدينية الرسمية الاسلامية (السنية و الشيعية و الدرزية) و بالأخص الموقف الداعم لها من قبل مفتي الجمهورية الشيخ احمد بدر الدين حسون و الشيخ محمد البوطي.
كما أعلنت الكنائس السورية (الشرقية و الغربية و الانجليكانية) بإعلان مشترك لها موقفا مؤيدا للسلطة. حتى المطران الماروني بشارة الراعي اعلن مرارا و تكرارا موقفا مؤيدا للنظام السوري. و الشيء نفسه يقال بخصوص المراتبية الدينية العليا للشيعة و الدروز. هذا الموقف المساند للدكتاتورية من الهيئات الدينية الرسمية العليا لم يمنع العديد من رجال الدين (من كافة الاديان و المذاهب) من المرتبات الدينية الادنى من مساعدة و دعم الثورة. لكن مما لا ريب فيه بأن موقف المؤسسة الدينية الرسمية (لكل الاديان و المذاهب) يشكل، اضافة الى موقف البرجوازية الخاصة، عاملان هامان من عوامل الدعم و الاسناد للنظام، و يلعبان دورا سلبيا مؤثرا على تطور الثورة ومعيقا لانتصارها، و هما مكونان من مكونات الثورة المضادة.
فالثورة في بلادنا ثورة شعبية حقيقية . فهي، و قبل أي شيء أخر، ثورة الجماهير المفقرة و المستغلة و المهمشة .و لأنها ثورة اجتماعية عميقة و جذرية فإنها تواجه ثورة مضادة تضم اضافة الى النظام الدكتاتوري الدموي و حلفائه الداخليين و الخارجيين ، البلدان الرجعية العربية و حلفائها . وهذا ما يطرح بشكل ملح على جدول أعمال الثورة الشعبية السورية ضرورة بناء القيادة الجماهيرية الثورية القادرة على السير بالثورة الى مطافها النهائي بإسقاط النظام و تحقيق الحرية و المساواة و العدالة الاجتماعية.
في سياق السيرورة الثورية الجارية منذ عام، ابتدعت الجماهير الثائرة اشكال تنظيمها من الاسفل مثل التنسيقيات لتنظيم الاحتجاجات و مؤخرا المجالس المحلية لإدارة شؤون حياة السكان في المناطق المنتفضة، و لعل الربط، او الدمج، بين هذين الشكلين من التنظيم الذاتي الجماهيري في اطار واحد قد اصبح ضروريا ، بحيث يمكنه القيام بوظائف تنظيم الاحتجاجات و الدفاع الذاتي(المقاومة الشعبية) و ادارة شؤون حياة السكان في أن معا. و بمعنى اخر ، أصبح مطلوبا و ملحا العمل على توفير الشروط الملائمة لتكوين سلطة بديلة من الاسفل. و كل قوى اليسار الثوري في سوريا مدعوة للانخراط في هذه المهمة العاجلة.
الاممية الرابعة
2012 / 3 / 9
1. إن الحركات التي كنست أنظمة بن علي و مبارك، و أنهت ديكتاتورية القذافي في ليبيا، و التي تتحدى الأسد في سوريا منذ زهاء سنة، و تطول المنطقة العربية برمتها، جزء من سيرورة تمثل انقلابا حقيقيا بالمنطقة. وتدل على قوة تطلع سكان المنطقة إلى الكرامة و الديمقراطية و العدالة الاقتصادية و الاجتماعية.
2. منطقي، و الحالة هذه، أن نشهد النساء، اللائي يتعرضن لآثار خاصة للأزمة الاقتصادية، و يعانين من تقليص بالغ لحقوقهن ببلدان عديدة، يشاركن في تلك الحركات و يناضلن فيها وحتى يقدنها. ففي بلدان عديدة بزغت النساء ضمن الناطقين الرئيسيين باسم تلك الحركات، في تونس و مصر، وحتى اليمن.
3. تشارك النساء في تلك الحركات منذ البداية بكيفيات بدت لهن مناسبة في مجتمعاتهن و تطورت مع تطور الحركة. وفي حالات عديدة تمكنت تلك الحركات من تخطي الحواجز التقليدية بين الرجال و النساء كما برز الأمر في ميدان التحرير بالقاهرة. و قد افضت المساواة و التحرر من التحرش الجنسي،الذين عاستهما النساء خلال تلك التعبئات الجماهيرية، الى إسقاط مبارك.
4. بفعل مكانة النساء التقليدية في مجمل المجتمعات البطريركية و الطبقية، ثمة ميل إلى إقصائهن من الحركات السياسية- لا سيما بعد نهاية الطور الأول من التعبئات الجماهرية. و يكتسي هذا الإقصاء أشكالا خاصة مع اللجوء إلى الإيديولوجية الدينية التقليدية في سياق مطبوع بهجوم التيارات السلفية في مجمل الديانات، و في مجمل البلدان التي فازت فيها تيارات إسلامية في الانتخابات.
5. في هذه البلدان ، حيث أطاحت حركات شعبية بأنظمة مستبدة و فاسدة، تحظى أحزاب تقدم نفسها على أنها إسلامية بدعم شعبي جماهيري لأسباب مختلفة، لأنها تبدو قوة جديدة لا علاقة لها بالنظام القديم ومنتقدة بشدة للفساد، وضحية للنظام القديم ، ومقاومة له. و بالفعل، يمكن لاقتناعات دينية بحد ذاتها أن تحفز المقاومة. وفي الآن ذاته ثمة غياب فعلي لكل بديل تقدمي يساري، لا سيما بسبب تفكيك تلك الأحزاب اليسارية بالقمع الذي مارسته الأنظمة السابقة.
6. حسب انخراطهن في الحركة الإجمالية، تقاوم النساء، سواء كن مؤمنات أو غير مؤمنات، و يتصدين للهجمات التي تستهدفهن مثل مراقبة البكارة في مصر التي تدعو إليها القوى الدينية القائمة. و قد أدى الاحتجاج ضد التعديات الجنسوية التي تستهدف النساء من قبل قوى القمع إلى تعبئة هامة و مسيرة في مصر.
7. في بعض بلدان المنطقة، منها تونس ومصر، لتيارات نسائية خاصة حضور تاريخي. يتعين اليوم على هذه التيارات أن ترفع تحدي نسج علاقات قوية وعضوية مع النساء، لا سيما الشابات، اللائي يتصدرن الحركة الإجمالية و يقاومن ما يتعرضن له من هجمات.
8. تتمثل مهمتنا في المشاركة في بناء التضامن و الروابط مع النساء اللائي يقاومن الهجمات ضد النساء و مع التيارات النسوية الجديدة أو القائمة، وكذا مع النساء اللائي يناضلن في أوساط خاصة مثل الحركة النقابية ، عبر حركات و بنيات ملائمة لبلداننا.
9. بتشجيع أوسع تعرف ممكن على وجود تلك المجموعات و الحركات النسائية و نشاطها، ندعم تعزيز صوتها، بما في ذلك في بلدانها الخاصة، و ندل على أن السيرورة الثورية الجارية في المنطقة العربية هي فعلا حركة تحررية رغم التناقضات القائمة. يجب ألا يحرف الاستعمال الرجعي للدين هذه السيرورة. و إن للتضامن مع نساء المنطقة و الدفاع عن حقوقهن، لا سيما من طرف نسوانيات بلدان أخرى، أهمية بالغة جدا في هذا الصدد.
10. نعبر عن تضامننا للنساء ضحايا القمع و العنف و التعذيب الذي عانت منه نساء عديدات لا سيما في سوريا اليوم. و نؤكد تضامننا مع النساء في السيرورة الثورية، بصفتهن نساء، مع الإسهام المشترك في النضال ضد اضطهاد النساء.
(بيان للجنة الأممية للأممية الرابعة-29 فبراير2012)
يعيش الشعب السوري،منذ عقود، تحت طغيان أوليغارشية دموية فاسدة. فالسلطة حُكْرٌ على حزب البعث، ولا سيما على عائلة الدكتاتور السابق، حافظ الأسد، وابنه بشار، حالياً.
ولقد أمكن البعض، بعد انطلاق الثورات العربية، أن يعتقدوا أن هذا النظام قد يفلت من هذه السيرورة، بسبب تظاهره بمقاومة الإمبريالية العالمية، ودولة إسرائيل، كما بسبب قوة جهازه القمعي. ولكن انتفاضة الشعب أثبتت عدم صحة هذه التصورات. فمنذ سنة، تنزل الجماهير السورية إلى الشوارع؛ ولقد صمدت ببطولة، وبطريقة سلمية، في مواجهة المجازر اليومية التي حصدت اكثر من عشرة آلاف قتيل، وعشرات الآلاف من الجرحى والمفقودين، ومئات ألوف المعتقلين، المعرَّضين لخطر الموت، تحت التعذيب. كما أنه لا يمكن إدخال الجرحى إلى المشافي، التي باتت مراكز للتعذيب والقتل. وعلى امتداد البلد بأسره، ثمة أعداد كبيرة من المباني السكنية، والمباني العامة، وأحياء بكاملها، تعرضت للتدمير، على يد قوات القمع، تنفيذاً لإرادة سحق كل مقاومة شعبية، ولا سيما في مدينة حمص الشهيدة.
هذا ولقد تورطت سلطات كل من روسيا والصين، وإيران، بصورة فاضحة، في مساندة بشار الأسد؛ ويقدم بوتين، رئيس وزراء روسيا، الدعم العسكري للنظام. ولكن في مواجهة المناورات الموازية لحكومات الولايات المتحدة، وبلدان الاتحاد الأوروبي، وتركيا، وإمارة قطر، والمملكة السعودية، تؤكد الأممية الرابعة معارضتها لأي تدخل إمبريالي مسلح، في سوريا، يكون الهدف منه تعزيز المصالح الذاتية لهذه القوى الكبرى، العالمية أو الإقليمية، وسيشكل، في حال حدوثه، كارثةً إضافية للشعب السوري.
في هذه السيرورة البطولية، يتنظم السوريون، الثائرون، من الأسفل، ويقيمون التنسيقيات، ويستحصلون على إمكانات خوض معركتهم، حتى نهاياتها، لأجل الحرية، والعدالة الاجتماعية. وهم يرفضون، في الوقت ذاته، كل ألاعيب التفرقة الطائفية، التي يضطلع بها النظام، وبعض الدول الخليجية.
إن على شعوب العالم، قاطبةً، أن تؤكد، إزاء هذه المذبحة الرهيبة، التي يتعرض لها الشعب السوري، تضامنها مع نضاله، لأجل تفكيك النظام الدموي المذكور. ولا يسعنا إيلاء أي ثقة للمناورات الدبلوماسية للحكومات. وعلى الحركة العمالية، والديمقراطية، التي نادراً ما استجابت نداءات الاستغاثة الصادرة من الشعب السوري، أن تجعل هذا التضامن واقعاً فعلياً، بصورة مطلقة. ولقد انخرطت قوى مناضلة يسارية سورية، في هذه الثورة، لكي يتطور التنظيم الشعبي الذاتي، ويفسح في المجال أمام نشوء بديل ديمقراطي، واجتماعي، وعلماني، ومناهض للإمبريالية.
إن الأممية الرابعة ستبذل كل ما في وسعها لتشجيع ذلك.
فليسقط نظام اللصوص والقَتَلَة!
إرحل يا بشار!
عاشت الثورة الشعبية في سوريا!
| ||
ماركس و أزمة الرأسمالية الراهنة | ||
| ||
بقلم: ميشيل هوسون |
| |
إلى أي مدى يمكن استعمال أدوات التحليل الماركسية لفهم الأزمة الراهنة؟ ليس الماركسيون وحدهم من يطرح هذا السؤال. فحتى قبل اندلاع الأزمة، كانت الصحافة الاقتصادية تحيل دوريا إلى النقد الماركسي للرأسمالية. ففي كتابه المنشور عام 2005، بعنوان كارل ماركس أو روح العصر، قال جاك أتالي: اليوم فقط يجري طرح الأسئلة التي أجاب عليها ماركس. و بجريدة فاينانشل تايمز ليوم 28 ديسمبر 2006 تساءل جون ثورنيل قائلا:" كيف يمكن فهم الرأسمال دون قراءة كتاب ماركس، الرأسمال؟". لكن هذه الإحالات لا تكفي لتجاهل اعتراض مشروع تماما مؤداه: أليس تبني كتاب من القرن التاسع عشر لتحليل واقع اليوم مجازفة بالسقوط في جمود عقائدي؟ هذا الاتهام وارد، ويمكن بناؤه انطلاقا من مسلمتين، تكفي إحداهما لجعل الإحالة إلى ماركس باطلة. لا غنى و الحالة هذه عن دحض كلا المسلمتين. ما الذي ُيبقي ماركس راهنيا ؟ المسلمة الأولى أن علم الاقتصادي أنجز، منذ عهد ماركس، تقدما نوعيا متعددا، وحتى أحدث تغيرا لا رجعة فيه. فحسب شارك Charles Wyplosz ويبلوز المختص بالاقتصاد: "من المعروف مثلا أن البطالة ناتجة جزئيا عن كلفة عمل مرتفعة جدا، و أن نظام التقاعد التوزيعي غير ممكن في سياقنا الديمغرافي، و أن ضغطا ضريبيا قريبا من 50% من الناتج الداخلي الإجمالي مصدر تقهقر اقتصادي و اجتماعي و أشياء أخرى" إن كان هذا صحيحا يكون التحليل المركسي متجاوزا من قبل علم الاقتصاد. إن هذا التصور " لعلم الاقتصاد": بما هو علم، وبكل حال بما هو علم موحد يتقدم بشكل مستقيم، تصور يستدعي الدحض. فبخلاف الفيزياء مثلا، تواصل نظريات اقتصادية مختلفة التعايش في صراع. فما اعتبره ويبلوز أمرا "معروفا" يندرج في العقيدة النيولبرالية الأشد دغمائية و يبقى طبعا قابلا للنقاش. إن الاقتصاد السائد، المسمى نيو كلاسيكيا، مبني على نظرية لا تختلف جوهريا عن نظريات المدارس السابقة للماركسية وحتى السابقة للكلاسيكيين. فالنقاش المثلث بين الاقتصاد "الكلاسيكي" (ريكاردو) و الاقتصاد " المبتذل" ( ساي أو مالتوس) و نقد الاقتصاد السياسي (ماركس) نقاش مستمر بنفس المضمون. وقد تطور ميزان القوى القائم بين هذه الأقطاب الثلاث، لكن ليس وفق ترسيمة إلغاء تدريجي لنظريات تسقط شيئا فشيئا في النسيان. باختصار لا يفرض الاقتصاد السائد سيطرته بسبب معارفه الخاصة به، بل حسب ميزان قوى إيديولوجي و سياسي أعم. للاكتفاء بمثال واحد، يمكن الإشارة إلى نقاش راهني حول ما يسمى « فخاخ البطالة " ، ويقصد بها أن تعويضات عن البطالة سخية جدا تثني العاطلين عن العودة إلى العمل، و تمثل بذلك إحدى أسباب استمرار البطالة. و الحال أنها الحجج ذاتها التي استعملت في بريطانيا للطعن في القانون حول الفقراء (في 1832). إنها إذن مسألة اجتماعية لم يتمكن أي تقدم للعلوم من حسمها. المُسلمة الثانية هي زعم أن رأسمالية اليوم مختلفة نوعيا عن الرأسمالية التي درسها ماركس، أي أ، تحاليله قدتفيد لفهم رأسمالية القرن التاسع عشر، لكنها مغلوطة تاريخيا بفعل التحولات الحاصلة مذاك في بنيات الرأسمالية و آلياتها. طبعا ليست رأسمالية اليوم شبيهة، في أشكال وجودها، لتلك التي عاصرها ماركس. لكن البنيات الأساسية لهذا النظام لم تتبدل. ويمكن، على العكس، الجزم أن الرأسمالية المعاصرة اقرب إلى اشتغال " صاف" مما كان " العصر الذهبي" الممتد من الحرب العالمية الثانية حتى منتصف سنوات 1970. عند تبنى وجهة النظر المزدوجة هذه ( غياب تقدم متراكم " للعلم" الاقتصادي، و عدم تبدل البنيات الرأسمالية)، يصبح جائزا تطبيق الترسيمات الماركسية اليوم. لكن لا يمكن الاكتفاء بصيغة مختزلة و دغمائية تقضي بإدخال الواقع الراهن في قالب مفاهيمي ماركسياني [ نسبة إلى ماركس الشخص] يجب البرهنة أن في الأمر فائدة، وانه يتيح فهما أفضل للرأسمالية المعاصرة، هذا ما يسعى النص التالي إليه مستعملا بعض الأمثلة. بماذا تفيد نظرية القيمة؟ تقع نظرية القيمة العمل في صلب التحليل الماركسي للرأسمالية. إنه من الطبيعي، و الحالة تلك، البدء بها إذا أردنا تقييم جدوى الأداة الماركسية في فهم الرأسمالية المعاصرة. يمكن تلخيصها بإيجاز بالفكرة التالية: العمل البشري هو المصدر الوحيد لخلق القيمة. يقصد بالقيمة هنا القيمة النقدية للسلع. نواجه عندها لغزا حقيقيا، لم تزله تحولات الرأسمالية، إذ ينتج العمال كامل القيمة لكنهم لا يحصلون سوى على قسم منها في شكل أجور، بينما يذهب الباقي إلى الربح. يشتري الرأسماليون وسائل إنتاج ( آلات، مواد أولية، طاقة، الخ) و قوة العمل، وينتجون سلعا يبيعونها و يحصلون في نهاية المطاف على مال أكثر مما استثمروا في البداية. الربح إذن هو الفرق بين سعر التكلفة و سعر بيع ذلك الإنتاج. هذه المعاينة تفيد كتعريف لكن لغز مصدر الربح يبقى قائما بالكامل. حول هذا السؤال الأساسي يبدأ ماركس تحليله للرأسمالية في كتاب رأس المال. كان كبار كلاسيكيي الاقتصاد الرأسمالي قبل ماركس ينهجون نهجا مغايرا متسائلين عما يحدد السعر النسبي للسلع: لماذا ،مثلا، يعادل سعر طاولة سعر خمسة سراويل؟ بسرعة كان الجواب الذي فرض نفسه هو أن نسبة 1 إلى 5 تعكس وقت العمل الضروري لإنتاج سروال أو طاولة. هذا ما يمكن أن نسميه الصيغة الابتدائية لقانون لقيمة العمل. فيما بعد، سعى هؤلاء الاقتصاديون " الكلاسيكيون" إلى تجزيء سعر سلعة. فعلاوة على سعر المواد الأولية، يضم هذا السعر ثلاث فئات كبرى، الريع و الربح و الأجر. تبدو هذه الصيغة " الثالوثية" متساوقة جدا: الريع هو سعر الأرض، و الربح سعر الرأسمال، و الأجر سعر العمل. ومن ثمة التناقض التالي: من جهة تتوقف قيمة سلعة ما على كمية العمل الضروري لإنتاجها ، لكنها، من جانب آخر، لا تضم الأجر وحده. و يزداد التحليل تعقيدا عندما نلاحظ أن الرأسمالية تتميز بتشكل معدل عام للربح، أي بعبارة أخرى وجود ميل إلى أن يكون للرساميل نفس المردود أيا كان فرع استثمارها. و لم ينجح ريكاردو في تدليل هذه الصعوبة. و اقترح ماركس حله، وهو في الآن ذاته حل عبقري و بسيط ( بالأقل من زاوية نظر لاحقة). فقد طبق على قوة العمل، تلك السلعة المتميزة، التفريق التقليدي، الذي تبناه، بين قيمة استعمال و قيمة تبادل. الأجر هو سعر قوة العمل المعترف به اجتماعيا في لحظة معينة بما هو ضروري لإعادة إنتاجها. بهذا المعنى يكون التبادل بين الأجير الذي يبيع قوة عمله و الرأسمالي علاقة متساوية بوجه عام. لكن قوة العمل لها خاصية متميزة – تكمن في قيمتها الاستعمالية- خاصية إنتاج القيمة. يتملك الرأسمالي مجموع تلك القيمة المنتجة، لكن لا يعيد منها سوى جزءا، لأن تطور المجتمع جعل الأجراء قادرين، خلال وقت عملهم، على إنتاج قيمة أكبر من تلك التي سيسترجعون في شكل أجر. سنفعل مثلما فعل ماركس في مطلع كتاب رأس المال و نرى في المجتمع " تراكما ضخما للسلع" ، أنتجها كلها العمل البشري. يمكن تقسيمها إلى "ركامين": يتكون الأول من المواد و الخدمات المطابقة لاستهلاك العمال، و الثاني مكون من مواد " البذخ" ومواد الاستثمار ويطابق فائض القيمة. و إن وقت عمل هذا المجتمع برمته قابل بدوره للتقسيم إلى حصتين: الوقت المكرس لإنتاج "الركام" الأول يسميه ماركس العمل الضروري، وذاك المخصص لإنتاج الركام الثاني هو العمل الفائض. هذا التمثيل بسيط في عمقه لكن بلوغه يستوجب تبني وجهة نظر اجتماعية. هل تتيح الدائرة المالية الاغتناء في حالة نوم؟ خلق كل من الغبطة البورصية و أوهام " الاقتصاد الجديد" الانطباع بإمكان "الاغتناء في حالة نوم"، أي باختصار أن الدائرة المالية قد أصبحت مصدرا مستقلا للقيمة. ليست أشكال التخيل الخادع هذه، الخاصة بالرأسمالية،أصيلة. ونجد لدى ماركس كل العناصر الضرورية لنقدها، لاسيما في تحاليل الجزء الثالث من كتاب رأس المال المخصصة لتقسيم الربح بين الفائدة و ربح المقاولة. كتب ماركس مثلا: " في ثمتله الشعبي يُعتبر الرأسمال المالي، أي الرأسمال الذي ُيدر فائدة، رأسمالا بذاته، الرأسمال بامتياز" [2]. فهو يبدو فعلا قادرا على جلب دخل، باستقلال عن استغلال قوة العمل. لهذا، يضيف ماركس قائلا: " بالنسبة للاقتصاديين المبتذلين الذين يسعون إلى إبراز الرأسمال كمصدر للقيمة و لخلق القيمة، يمثل هذا الشكل نعمة، لأنه يجعل مصدر الربح غير متعرف عليه و يمنح نتيجة عملية الإنتاج الرأسمالي- المفصولة عن العملية ذاتها- وجودا مستقلا." [3]. تعتبر الرؤية التبريرية لفرع الاقتصاد هذا المجتمع سوقا معممة، يدخلها كل واحد حاملا "مخصصاته" ليعرض في السوق خدماته في شكل "عوامل إنتاج". البعض يعرض عمله، و آخرون الأرض، و ثلة أخرى تعرض الرأسمال، الخ. طبعا لا تقول هذه النظرية أي شيء عن الساحرة التي وهبت كل فرد تلك "المخصصات" الأصلية، لكن القصد جلي: إبراز أن الدخل الوطني مبني بتجميع مداخيل مختلف "عوامل الإنتاج" وفق عملية تميل إلى إضفاء التساوق عليها. يختفي الاستغلال لأن كل عامل من عوامل الإنتاج ُيكافأ حسب إسهامه الخاص. لهذا النوع من الترسيمة مزايا، لكنه ينطوي أيضا على مصاعب. منها مثلا، يتعلم أجيال طلاب الاقتصاد أن " المنتج يرفع ربحه إلى أقصاه". لكن كيف يجري حساب هذا الربح؟ انه الفرق بين سعر المنتوج و كلفة و سائل الإنتاج - أي الأجور لكن معها "كلفة استعمال" الرأسمال. هذا المفهوم الأخير، الحديث نسبيا، يلخص لوحده مصاعب العملية، لأنه متوقف في الآن ذاته على أسعار الآلات و على معدل الفائدة. لكن إذا كان سعر الآلات قد سُدد و الفوائد مدفوعة [دخل رأس المال]، فما هو هذا الربح الذي ُيرفع إلى أقصاه؟ السؤال مهم بقدر ما أن هذا الربح، بعد " رفعه إلى أقصاه"، يجب أن يكون صفرا [ لان مكافأة عوامل الإنتاج سبق حسابها]. و إن لم يكن صفرا تنهار نظرية التوزيع النيو كلاسيكية لأن الدخل يصبح أكبر من مكافأة كل من "العوامل". الطريقة الوحيدة لتدليل هذه الصعوبة، بالنسبة للاقتصاد السائد، هي تجزيئها إلى قطع و إتيان أجوبة مختلفة حسب المناطق المطلوب استكشافها، دون تأمين أي تماسك إجمالي، هذا التماسك المستحيل سوى بنظرية قيمة ما أعوزه إليها. لتلخيص هذه المصاعب، التي تعيد إلى نقاش ماركس، تتأرجح النظرية السائدة بين موقفين متعارضين. يتمثل الأول في مماثلة الفائدة مع الربح - و الرأسمال المقترض بكامل الرأسمال المستعمل- لكنه لا يفسر وجود ربح مقاولة. والموقف الثاني يتمثل في تمييزهما، لكن ذلك يؤدي إلى استحالة إنتاج نظرية للرأسمال موحدة. كل تاريخ النظرية الاقتصادية البرجوازية عبارة عن ذهاب و إياب بين هاذين الموقفين المتناقضين، ولم تتم تسوية هذه المسألة بتطور "العلم الاقتصادي". لهذا تكتسي نظرية القيمة العمل أهمية خاصة لمعالجة سليمة لظاهرة إضفاء الطابع المالي financiarisation. إن تمثلا واسع الانتشار يقول إن للرساميل باستمرار خيار الاستثمار في دائرة الإنتاج أو أن توظف في الأسواق المالية، و أنها تحتكم بين الاثنين حسب المردود المرتقب في كليهما. لهذه المقاربة فضائل نقدية لكن لها عيب الإيحاء أن ثمة وسيلتين بديلتين لكسب المال. و في الواقع لا يمكن الاغتناء في البورصة سوى على قاعدة اقتطاع من فائض القيمة [ استغلال العمل المأجور]، على نحو يجعل للآلية حدودا، إنها حدود الاستغلال، و يتعذر أن تغذي حركة التثمير بالبورصة ذاتها بلا نهاية. من وجهة نظرية، يجب أن تكون أسعار البورصة مرتبطة بالأرباح المتوقعة. كانت هذه العلاقة تشتغل جيدا في فرنسا. هكذا كان مؤشر بورصة باريس، بين 1965 و 1995، يتطور متزامنا مع الربح. لكن هذا القانون جرى خرقه بجلاء في النصف الثاني من التسعينيات، فمؤشر CAC40 مثلا تضاعف ثلاث مرات، الأمر الخارق جدا . و يجب تفسير انقلاب البورصة كشكل من إعادة الأمور إلى نصابها يقوم به قانون القيمة الذي يشق طريقه دون اكتراث بالموضة الاقتصادية. عودة ما هو واقعي تحيل في نهاية المطاف إلى استغلال العمال الذي يمثل "الأساس" الحقيقي للبورصة. إن نمو الدائرة المالية، وما تدر من مداخيل، غير ممكن سوى بتناسب صحيح مع ارتفاع فائض القيمة غير المتراكمة، ولكلاهما حدود جرى بلوغها. التراكم و الأزمات الدورية تقترح النظرية الماركسية حول التراكم و إعادة إنتاج الرأسمال إطار تحليلا لمسار نمط الإنتاج الرأسمالي. فلهذا الأخير مبدأ فعالية خاص، لا يمنعه من الاصطدام بانتظام بتناقضات (تمكن حتى الآن من تجاوزها). جعله تاريخه يجتاز أطوار مختلفة تقربه من أزمة منظومية، طاعنا في مبدأ اشتغاله المركزي، دون أن يمكن مع ذلك استنتاج حتمية انهياره النهائي. نبدأ بمدح قائم على مفارقة: الرأسمالية هي، في تاريخ الإنسانية، أول نمط إنتاج برهن على هكذا دينامية . يمكن قياس ذلك ،مثلا، بالازدهار غير المسبوق لإنتاجية العمل منذ منتصف القرن التاسع عشر، ما جعل ماركس يقول إن الرأسمالية قامت بتثوير قوى الإنتاج. هذا الأداء العالي نابع من ميزتها الأساسية التي هي تنافس الرساميل الخاصة بدافع السعي إلى أقصى مردود. يفضي هذا التنافس إلى ميل دائم إلى تراكم الرأسمال. هذا التنافس يقلب دوما أساليب الإنتاج و المنتجات ذاتها و لا يكتفي بزيادة نطاق الإنتاج. و لهذه المؤهلات مقابل متمثل في مصاعب هيكلية في الاشتغال تتجلى في أزمات دورية. يمكن رصد تناقضين مركزيين مطلقا يجمعان ميلا إلى فيض التراكم من جهة، و إلى فيض الإنتاج من جهة ثانية. الميل إلى فيض التراكم مقابل للتنافس: يجنح كل رأسمالي إلى الاستثمار كي يكسب حصصا من السوق، إما بخفض أسعاره، أو تحسين جودة سلعته. وهو محفز إلى ذلك بقدر ما السوق واعدة و المردود مرتفع. لكن مجموع هذه الأفعال، العقلانية عند اتخاذ كل منها على حدة، تفضي على نحو شبه آلي إلى فيض التراكم. بعبارة أخرى، ثمة إجمالا فيض قدرة إنتاج قائمة، و تاليا فيض رأسمال متعذر تفعيله بمردود كالسابق. ما ُيكسب في الإنتاجية يؤدى عنه زيادة في الرأسمال الضروري لكل منصب عمل، هذا ما كان ماركس يسميه التركيب العضوي للرأسمال. الميل الثاني متعلق بإمكانات التسويق [إمكانات بيع]. يؤدي فيض التراكم إلى فيض الإنتاج، بمعنى إنتاج فيض من السلع قياسا بقدرة السوق على امتصاصها. ينتج هذا الاختلال عن نقص استهلاك نسبي، كلما لم يخلق توزيع المداخيل القدرة الشرائية الضرورية لتصريف الإنتاج. كان ماركس درس مطولا شروط إعادة إنتاج النظام، التي يمكن إيجازها بقول إن الرأسمالية تستعمل محركا بزمنين: هي بحاجة إلى الربح، طبعا، لكنها بحاجة أيضا إلى بيع فعلي للسلع، على نحو يتيح فعلا ذلك الربح، أي "تحققه". بين ماركس أن تلك الشروط ليس مستحيلة مطلقا، لكن ما من ضمانة لاستيفائها على الدوام. ينطوي التنافس بين الرساميل الفردية دوما على خطر فيض التراكم، ومن ثمة خطر اختلال توازن "فرعي" الاقتصاد: فرع إنتاج وسائل الإنتاج ( مواد الاستثمار، طاقة، مواد أولية ، الخ)، وفرع إنتاج مواد الاستهلاك. لكن المصدر الرئيس للاختلال هو صراع الطبقات: لكل رأسمالي كامل المصلحة في خفض أجور عماله، لكن إذا جمدت كل الأجور، تنقص فرص البيع. يجب عندئذ إعادة توزيع الربح الحاصل بفضل تجميد الأجور نحو شرائح اجتماعية أخرى تستهلكه معوضة بذلك نقص استهلاك الأجراء. هكذا، يتسم اشتغال الرأسمالية بعدم انتظام جوهري. و يخضع مسارها لنوعين من الحركة ليس لهما نفس المدى. ثمة من جانب دورة الرأسمال المفضية إلى تعاقب منتظم للازدهار و الانحسار. و تندرج هذه الأزمات الدورية، الواضحة إلى هذا الحد أو ذاك، في الاشتغال "الطبيعي" للرأسمالية. إنها "أزمات صغيرة" يخرج منها النظام على نحو آلي: طور الانحسار يفضي إلى تبخيس الرأسمال و يخلق شروط الانطلاق من جديد. و الاستثمار هو محرك هذه التقلبات الآلية على نحو ما. دورات قصيرة وموجات طويلة لكن للرأسمالية تاريخا لا يقوم فقط بتكرار هذا الاشتغال الدوري المفضي إلى تعاقب فترات تاريخية، مطبوعة بمميزات خاصة. تفضي نظرية الموجات الطويلة التي طورها ارنست ماندل إلى رصد زمني ملخص في الجدول التالي: تعاقب الموجات الطويلة موجة طويلة طور توسع طور انحسار رقم 1 1787-1816 1816-1847 رقم2 1848-1873 1873-1896 رقم3 1896-1919 1920-1945 رقم4 1945-1975 1974-2007 1974-2007 سنوات الثلاثين المجيدة الرأسمالية النيوليبرالية هكذا، تشهد الرأسمالية، على وتيرة أطول، تعاقب أطوار توسع و أطوار انحسار. يستدعي هذا العرض التركيبي بعض التدقيقات. أولها أنه لا يكفي انتظار 25 سنة أو 30 سنة. يتحدث ماندل عن موجة بدل دورة فلأن مقاربته لا تندرج في ترسيمة عادة ما ُُتنسب- و ربما عن خطأ- إلى كوندراتييف [5] ، من الحركات المنتظمة و المتناوبة للأسعار و الإنتاج. تتمثل إحدى العناصر الهامة لنظرية الموجات الطويلة في القطع مع تساوق الانعطافات، فالانتقال من طور التوسع إلى طور الانحسار انعطاف "داخلي النمو"، بمعنى انه ناتج عن آليات داخلية للنظام. فيما الانتقال من طور الانحسار إلى طور التوسع هو، بالعكس، "خارجي النمو"، غير آلي، و يفترض إعادة تشكل البيئة الاجتماعية و المؤسسية. الفكرة الأساسية هنا أن الانتقال إلى طور التوسع ليس معطى مسبقا، و انه يتعين إعادة تشكيل "نظام إنتاج" جديد. و يستغرق هذا الوقت الواجب، ومن ثمة فهو ليس دورة شبيهة بالدورة الظرفية التي يمكن ربط مدتها بمدة حياة الرأسمال القار. لهذا، لا تولي هذه المقاربة أي أولوية للاختراعات التكنولوجية: تقوم التحولات الاجتماعية (ميزان القوى بين الرأسمال و العمل، درجة التشريك، شروط العمل، الخ) بدور أساسي في تحديد نظام الإنتاج الجديد هذا. وطبعا لمجرى الموجات الطويلة علاقة مع معدل الربح. لكن الأمر لا يعني أن طور التوسع ينطلق آليا فور بلوغ معدل الربح عتبة ما. هذا شرط ضروري لكن غير كاف. يجب أن يأتي النحو الذي يتجدد به معدل الربح جوابا مناسبا لمسائل أخرى متعلقة بوجه خاص بالتحقق [الأسواق]. هذا ما يجعل تعاقب الأطوار غير معطي مسبقا. هكذا، يجب على الرأسمالية أن تعيد دوريا تحديد كيفيات اشتغالها و تقيم "نظام إنتاج" مستجيب على نحو متماسك لعدد من المسائل المتعلقة بالتراكم و إعادة الإنتاج. يجب بوجه خاص تركيب أربع عناصر: نمط تراكم يحدد كيفيات التنافس بين الرساميل و علاقة الرأسمال-العمل. التكنولوجيا: نموذج من قوى الإنتاج المادية الضبط الاجتماعي: قانون العمل، الحماية الاجتماعية، الخ. نموذج من قسمة العمل الدولية. معدل الربح مؤشر تركيبي جيد على ازدواج زمانية الرأسمالية هذه. فهو على المدى القصير يتقلب مع الدورة الظرفية، فيما تلخص حركاته على المدى الطويل الأطوار الكبرى للرأسمالية. و ينعكس إرساء نظام إنتاج متماسك في الحفاظ عليه في مستوى عال "مضمون" تقريبا. بعد مدة، يتدهور هذا الوضع بفعل التناقضات الأساسية للنظام، وتكون الأزمة دوما و في كل مكان مطبوعة بانخفاض هام لمعدل الربح. و يعبر هذا الانخفاض عن عجز مزدوج لدى الرأسمالية عن إعادة إنتاج درجة استغلال العمال و تأمين تحقق قيمة السلع. و ينعكس الإرساء التدريجي لنظام إنتاج جديد في استعادة سريعة، إلى حد الحد أو ذاك، لمعدل الربح. هذه الكيفية هي التي تبدو لنا مفيدة لإعادة صياغة قانون ميل معدل الربح إلى الانخفاض: لا ينخفض هذا على نحو مستمر، لكن الآليات التي تدفعه إلى الانخفاض تفضي دوما إلى التغلب على ما كان ماركس يسميه الميول المضادة. هكذا تظهر بشكل دوري الحاجة إلى إعادة تشكيل نظام الإنتاج. يمكن في آخر المطاف تلخيص المقاربة الماركسية للدينامية الطويلة للرأسمال على النحو التالي: الأزمة أكيدة لكن الكارثة غير أكيدة. الأزمة أكيدة بمعنى أن كل ما تخترع الرأسمالية من تدابير، أو ما يُفرض عليها، لا يمكن أن تلغي على الدوام الطابع مختل التوازن و المتناقض لاشتغالها. وحده الانتقال إلى منطق آخر قد يفضي إلى ضبط قار. لكن ما يطبع تاريخ الرأسمالية من أزمات دورية لا يعني بأي وجه أنها تتجه حتما صوب انهيار نهائي. في كل من هذه" الأزمات الكبرى" الاختيار مفتوح: إما إطاحة الرأسمالية أو وثبة جديدة بأشكال تكون عنيفة إلى هذا الحد أو ذاك (حروب ، فاشية) و ناكصة (انعطاف نيوليبرالي). هذا هو الإطار الذي يجب فحص مسار الرأسمالية المعاصرة فيه. ميشال هوسون تعريب المناضل-ة | ||
إحالات 1. Charles Wyplosz, « Inculture française », Libération, 26 Mars 1998, http://gesd.free.fr/wyplo98.pdf 2. Le Capital, Livre Troisième, Tome II, Editions Sociales, 1970, p. 42 3. Idem, p. 56. 4. Ernest Mandel, Long waves of capitalist development, Verso, 1995 5. Nicolas D. Kondratieff, Les grands cycles de la conjoncture, Economica, 1992. 6. Pour une présentation plus détaillée, voir : Christian Barsoc, Les rouages du capitalisme, La Brèche, 1994, http://hussonet.free.fr/rouages.pdf. 7. Pour un exemple d’application, voir Michel Husson, « Le néolibéralisme, stade suprême ? », à paraître dans Actuel Marx. |
تحت تأثير موجة الثورات الشعبية عبر الشرق الأوسط، تغيرت الكثير من التوازنات السياسية التي كانت سائدة في المنطقة، وفلسطين لم تكن بعيدة عن هذه الأحداث التي ملأت العالم صخباً طوال العام الماضي، بل كانت في القلب من هذه التغيرات.
من المعروف للجميع أن الساحة السياسية الفلسطينية تقبع تحت سيطرة فصيلين متنافسين، فتح وحماس، وقد وقّعا في الصيف الماضي اتفاقية مصالحة أسفرت عن اتفاق يقضي بتشكيل حكومة وحدة وطنية الشهر الجاري، فيما من المتوقع أن يتم عقد الانتخابات في مايو القادم.
إلا أنه لا يمكن تناول هذه المصالحة إلا كنتاج للثورات العربية، وبالأخص في مصر وسوريا، حيث أثارت الملايين الثائرة في المنطقة العربية تخوفات بالغة لدى القادة الفلسطينيين من تقلص أو فقدان شعبيتهم. وذلك في ظل تصاعد الغضب الشعبي الفلسطيني تجاه أولئك القادة. فمن ناحية، يرى الفلسطينيون أن كلاً من فتح وحماس يهتمون بالاقتتال والصراع فيما بينهم أكثر من مقاومة العدو الصهيوني. ومن ناحية أخرى، فإن الضعف والطاعة اللتين يتميز بهما قادة فتح أمام الاحتلال الإسرائيلي يضاعف من غضب الفلسطينيين في الوقت الذي يحيى فيه أولئك القادة حياة مترفة في مساكنهم الفارهة في رام الله بينما يعيش الشعب الفلسطيني في فقر مدقع ومعاناة يومية.
ومن زاوية أخرى، فقد كان سقوط الديكتاتور المخلوع في مصر وصعود الإخوان المسلمين في مصر (كما في تونس)، عاملاً هاماً في دفع قادة فتح وحماس نحو المصالحة. فمبارك كان سنداً هاماً لقيادة فتح الملتفة حول محمود عباس، وقد أمدهم بالأموال والأسلحة التي مكنتهم من الانقلاب على حكومة حماس المنتخبة ديمقراطياً في غزة. وبالرغم من تصدي حماس لذلك الانقلاب في 2007، إلا أنه دائماً ما يتم تصوير ذلك على أن حماس قامت بـ"الاستيلاء على السلطة".
وبعد أن فقدت فتح ذلك الحليف الهام -مبارك- اضطرت بالطبع إلى إعادة ترتيب أوراقها السياسية، والمصالحة مع حماس هي بالتأكيد إحدى نتائج هذه العملية. وفي هذا السياق أيضاً، ذهبت فتح إلى أبعد من مجرد التفاوض مع الولايات المتحدة وتقدمت بطلب الاعتراف بدولة فلسطين من جانب الأمم المتحدة.
أما بالنسبة لحماس، فقد كانت الثورة المصرية تعني الإطاحة بنظام مكروه يدعم منافسها في فلسطين. بل لقد مهدت الثورة المصرية الطريق أمام المنظمة الأم لحركة حماس -الإخوان المسلمين- لتضطلع بدور أكبر في مصر، بالأخص بعد الصعود الانتخابي وحوز أغلبية المقاعد بمجلس الشعب. والود المتبادل بين جنرالات المجلس العسكري والولايات المتحدة مع الإخوان المسلمين في مصر قد أعطى الكثير من الثقة لقادة حماس لتوقيع المصالحة مع فتح. لكن ذلك يكشف أيضاً عن تناقضات عميقة في استراتيجية حركة حماس وجماعة الإخوان المسلمين على حد سواء.
فالإخوان الملسمون يقعون اليوم في التناقض بين الدعم الجماهيري في مصر للشعب الفلسطيني من ناحية، والدور الذي يتوقعه العسكر والولايات المتحدة من الجماعة في التهدئة واستيعاب غضب الجماهير من ناحية أخرى. والجدير بالانتباه أن مساومة الإخوان المسلمين في مصر على قضايا محورية، مثل احترام معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني، سيكون له تأثير سلبي على مصداقية حركة حماس في فلسطين وعلى استراتيجيتها السياسية أيضاً.
الثورة السورية أيضاً قد دفعت قادة حماس للإسراع في المصالحة مع فتح. فعلى عكس حزب الله في لبنان، رفضت قيادة حماس تأييد بشار الأسد في قمعه الدموي للثورة، وقد قام الأسد بتوبيخهم بشدة على رفضهم الاصطفاف بجانبه ضد ما يسميه "المؤامرات الخارجية"، وهذا ما اضطر أغلب كوادر حماس في دمشق لمغادرة سوريا.
جدير بالذكر أن القيادي بحركة حماس، خالد مشعل، يجري الآن مباحثات مع الملك عبد الله في الأردن، الأمر الذي يكشف عن تناقض سياسي خطير حين تلجأ قيادات حماس لجلب الدعم من نظام موالي للغرب والولايات المتحدة. وذلك في حين أن النظام العسكري في مصر لن يقبل أي تمركز لكوادر حماس في القاهرة مثلاً، فقد يُعرض ذلك علاقته بالكيان الصهيوني للخطر. أما غزة، فلا يمكن الاعتماد عليها إلى الأبد كنقطة ارتكاز وحيدة لحركة حماس في ظل الهجمات الإسرائيلية المتكررة.
لكن ما يشغل بال الفلسطينيين هو ما إذا كانت المصالحة بين فتح وحماس ستسفر عن تصدي حقيقي للاحتلال الإسرائيلي وهجماته الوحشية أم لا. لكن ليس لدى حماس أو فتح أي استراتيجية ترمي إلى تحرير فلسطين. فقيادات فتح تتميز بخسة وجبن لا غبار عليهما وتخشى أي تحركات جماهيرية من أسفل، وقد كان ذلك واضحاً أثناء مظاهرات التضامن مع الثورة المصرية في رام الله والتي سرعان ما تعاملت معها السلطة الفلسطينية بقمع عنيف.
والآن على قيادات حماس أن يقدموا التنازلات لنظرائهم في فتح، كما عليهم أن يواجهوا ضغوطاً إضافية في حال إذا قدم الإخوان المسلمون في مصر تنازلات أمام إسرائيل. ولقد أدت المصالحة بالفعل إلى المزيد من التناقض لدى حركة حماس، وقد بات ذلك واضحاً في تصريحات إسماعيل هنية بأن على الفلسطينيين أن يحتفظوا بخيار المقاومة المسلحة بجانب المقاومة المدنية السلمية.
لسنوات طويلة كان الاشتراكيون يجادلون بأن تحرير فلسطين يستلزم ثورات جماهيرية عبر المنطقة العربية تسقط الأنظمة الحاكمة المتحالفة مع إسرائيل والداعمة لها، وأن "الطريق لتحرير القدس يمر عبر القاهرة". والثورات التي اندلعت خلال العام الماضي، والتي مازالت مستمرة إلى اليوم، قد حوّلت هذه الفكرة من كونها شعاراً مجرداً إلى إمكانية عملية، حتى وإن بدت بعيدة المنال. ويظل الأمل الأكبر في تحرير كامل التراب الفلسطيني متعلق بإمكانية تطور الحركات الثورية في المنطقة العربية من أسفل في الميادين والجامعات ومواقع العمل.
* تم نشر المقال لأول مرة في 21 فبراير 2012 بجريدة العامل الاشتراكي – العدد 2291، يصدرها حزب العمال الاشتراكي البريطاني
لتحميل العدد الاول لمجلة المنتدى الاشتراكي للرفاق اللبنانيين يرجى الضغط على الرابط
الفوضوية، نقد ماركسي | ||||||||||||||||||||||||||||
| ||||||||||||||||||||||||||||
بقلم: جون مولينو - كونور كوستيك |
| |||||||||||||||||||||||||||
تقديم: جاذبية الفوضوية على الدوام، مارست الفوضوية جاذبية على الذين يتمردون ضد هذا المجتمع المتعفن. و تمارس جاذبية خاصة على الشباب، وهذا فخر لها. في كل حركة جذرية وثورية، قام الشباب بدور يفوق وزنهم، لأن الشباب، غير الخاضع و غير المحطم، هو الأكثر حيوية و يبدي أكبر مثالية. بوجه الاستغلال، و الظلم، و جبروت الدولة الرأسمالية، والسطوة الفتاكة لأيديولوجيتها، تنتفض الفوضوية. و تعلن أن ليس علينا أن نعيش على هذا النحو، وأن التقسيم إلى فقراء و أغنياء، مستغلين و مستغلين، مسيطرين و مسيطر عليهم ليس أمرا حتميا، و أن الحروب ليست قدرا محتما، شأنها شأن العنصرية و الاضطهاد و سيطرة أقلية على الأغلبية، و لا حتى أغلبية على أقلية. وتعارض الفوضوية الفكرة التي مؤداها أن الجماهير، بحكم طبيعتها، بليدة أو أنانية، ومن ثمة لا بد لها من سلطة عليا تملي عليها ما يجب أن يكون سلوكها، و تمارس عليها رقابة. تؤكد الفوضوية أن بوسعنا أن نعيش في ظل تعاون وتناغم. و ترفض الفوضوية، باحتقار، النفاق و الانتهازية الكلبية للأوساط السياسية السائدة، حيث يتخفى الساسة البرجوازيون و يستعرضون أنفسهم كما يعرض الغسيل، وحيث السياسة، خلو من المبادئ، تحت رحمة استطلاعات الرأي. تمثل الفوضوية بوجه خاص ردة فعل على الدمج المتنامي لأحزاب اليسار الرئيسة في هذا العالم السياسي الرسمي الفاسد. إنها تعطي تعبيرا جذريا للشعور الشائع في الطبقات الشعبية بأن كل الساسة صفر و لا يسعون سوى إلى الاستيلاء على السلطة، و لا ينشغلون سوى بملء جيوبهم. لذا ليس مفاجئا، في الظروف الراهنة، أن تشهد الفوضوية انتعاشا محسوسا في أوربا. لم يسبق للاشتراكية الديمقراطية، خلال 100 سنة الأخيرة، أن تخلت عن كل احتجاج على النظام. ولم تبلغ بالوضوح الراهن ما بلغت في التواطؤ مع الدولة. كما كان لتفكك الأنظمة المسماة شيوعية ( أوربا الشرقية و الاتحاد السوفياتي سابقا) أهمية أكبر. فقد كان ملايين الناس في العالم يعتبرون تلك البلدان بديلا " قائما فعلا" عن الرأسمالية الغربية. لكن، منذ متم العام 1989، حطمت الأحداث بشراسة تلك الأوهام، مبرهنة ليس على الإفلاس الداعي للرثاء لاقتصاد الأوامر البيروقراطية وحسب، بل أيضا على حجم ما كانت الجماهير الشعبية تكن من حقد لتلك الأنظمة. انهارت الستالينية، ذلك التقليد الذي هيمن على أغلبية اليسار منذ 60 سنة. وتجاوز فقد العزيمة الناتج عن ذلك صفوف الأحزاب الشيوعية ليصل إلى كل من كانوا يعتبرون مجتمعات الشرق متفوقة، على نحو أو آخر، على الرأسمالية الغربية. يجب إذن توقع أن يعتبر الباحثون عن بديل جذري الفوضوية الأيديولوجية الوحيدة غير الملطخة بالدماء. كما تمارس الفوضوية جاذبية قوية بصفتها حاملا لأسلوب حياة. ففي نظر قسم من الشباب الذي يعيش في فقر، و بلا عمل في الغالب، و حتى بلا سكن أحيانا، ويقطن منازل مهترئة، ويعيش إلى هذا الحد أو ذاك في هوامش المجتمع بالأحياء الفقيرة، مضطرا في الغالب إلى اللجوء إلى الجريمة الصغيرة، في نظر هؤلاء تمثل الفوضوية رفضا للنظام الذي استبعدهم. لكن التطلع إلى أهداف نبيلة، والجاذبية القوية والمتنوعة، لا يضمنان لأيديولوجية ما القدرة على بلوغ الأهداف التي حددت. مثلا، مارست الستالينية جاذبية قوية على معارضي الرأسمالية و الامبريالية، لكنها لم تكن في آخر المطاف غير مأزق. هل تشكل الفوضوية أيديولوجية قادرة على تحقيق النصر للنضال من اجل تحرر البشرية؟ هذه الكراسة تجيب: لا. و تسعى إلى البرهنة على أن التصورات الأساسية للفوضوية مشوبة بأوجه ضعف عديدة، وأنها لا تفضي عمليا سوى غلى كبح و النضال من أجل تحرر البشرية و عرقلته. و ستقدم هذه الكراسة نقدا لنظرية الفوضوية ولممارستها من وجهة نظر ماركسية ( أي من وجهة نظر الماركسية الكلاسيكية، وجهة نظر ماركس و لينين و تروتسكي، و ليس وجهة نظر الستالينية). و ستحاول البرهنة على أن الماركسية، دون سواها، و ليس الفوضوية، هي التي تفتح الطريق نحو المجتمع اللاطبقي المستقبلي، المجتمع الذي يعتبره الماركسيون و الفوضويون هدفهم الأقصى. أفكار الفوضوية تتجلى الفوضوية في أشكال متعددة. ثمة الشكل الفرداني المحض، الرافض لكل تنظيم. لكن ثمة أيضا منظمات فوضوية صغيرة عديدة. و يعبر بعض الفوضويين عن إيمانهم بالإنسان، باستقلال عن المعيار الطبقي. و يتوجه آخرون، مثل الفوضويين الشيوعيين، نحو الطبقة العاملة. وثمة فوضوية العصابات الفلاحية لماخنو Makhno . وهناك الفوضوية التي تستبعد النقابات كأداة نضال، وهناك بعكس ذلك النقابية الفوضوية. ثمة فوضويون ثوريون أو الإرهابيون أو دعاة السلم أو الخضر. وهناك أيضا فوضويون لا تسعهم أي من هذه الفئات أو يدمجونها بطريقة خاصة بهم. ثمة فوضويون متأثرون ببرودون، و آخرون بباكونين، أو كروبوتكين، لكن ليس ثمة "برودونيون" ، أو "باكونينيون"، أو "كروبوتكينيون"، يدافعون عن عقيدة أو خط سياسي محدد بدقة. وبالتالي، تظهر الفوضوية للناقد هدفا دائم الحركة. انتقدوا نظرية أو خطا سياسيا دقيقا و سيتجلى أن اغلب الفوضويين لا يتبنونها. حللوا أفكار مفكر فوضوي كلاسيكي و سيتبرأ منه فوضويون آخرون. ثمة، رغم هذه المصاعب، بعض الأفكار العامة و المواقف مشتركة بين كلتنويعات الفوضوية،أو كلها تقريبا، ويمكن أن تفيد كنقطة انطلاق لعملية نقد. و أهمها هي: العداء للدولة، بكافة أشكالها، حتى الدولة الثورية. العداء للقيادة، أيا كانت، حتى قيادة ثورية. العداء لكل الأحزاب ، حتى الأحزاب الثورية. سنتناولها واحدة تلو الأخرى. 2- الرؤية الفوضوية للدولة المعنى الحرفي للفوضى anarchie هو انعدام سلطة، أي الاعتراض على الدولة و الحكومة، و ليس على دولة بعينها أو حكومة من نوع خاص، بل كل الدول و كل الحكومات في كل الأزمنة، بناء على موقف مبدئي. انه التعريف المميز للفوضوية بما عي عقيدة إيمان. تقول الفوضوية إن وجود الدولة ذاته، بما هي كيان خاص من الرجال (و النساء) يمارسون السلطة الفعلية و القانونية على المجتمع برمته، فعل اضطهاد و غير مطابق للحرية الإنسانية الحقيقية. و للقضاء على الاضطهاد، و إرساء ملكوت الحرية، يجب استبدال سلطة الدولة بالجماعة المحكومة ذاتيا، المتخلصة من كل سلطة مركزية. يبدو هذا المنظور، من وجهة نظر الأفكار السائدة، كارثيا أو مستحيلا. وجه الكارثة فيه، حسب تلك الأفكار، أن المجتمع بلا دولة سيغرق في حرب فوضوية، "حرب الجميع ضد الجميع"، حيث ستسود "شريعة الغاب" الشهيرة. و ستكون الحياة مقيتة "مقززة، و حشية، وقصيرة" (حسب تعبير فيلسوف القرن 17 توماس هوبز). وهو منظور مستحيل، بنظر الأفكار السائدة، لأن من طبيعة الأمور أن يسمو فرد أو مجموعة أفراد فوق الآخرين و يسيطرون عليهم. و بالتالي، لا يمكن أن نأمل أكثر من دمقرطة الدولة بانتخاب حكومة و اعتماد بعض الحقوق الديمقراطية ( حق التعبير ، الخ). بصدد هذه المسألة، "الحس المشترك" على خطأ، و الفوضوية على صواب. إذ تثبت الأنتربولوجيا أن الكائنات البشرية قادرة على العيش في مجتمع بلا دولة و لا حكومة. ولم تكن تلك المجتمعات غارقة في فوضى، بل منظمة بقدر تنظيم مجتمعاتنا أو حتى أفضل منها. وقد اكتشف علماء الانتربولوجيا مجتمعات عديدة من ذلك القبيل و درسوها: ثمة مثال ممتاز هو الكونغ Kung أو كالوان براهمان Kaluhan Brahman في أفريقيا الجنوبية. وثمة دواع عديدة لاعتبار انعدام الدولة المعيار السائد خلال عشرات آلاف السنين الممتدة من أصل البشرية حتى انقسامها إلى طبقات اجتماعية (مع ظهور الزراعة، و تربية الماشية، و الملكية الخاصة) قبل 5000 إلى 10000 سنة. كما أن الفوضوية على حق عندما تعتبر كل أشكال الدولة مؤدية إلى اضطهاد قسم من المجتمع من طرف قسم آخر. و لا يغير ظهور الديمقراطية البرلمانية من هذا الأمر قيد أنملة. فالبرلمانات، أيا كانت طريقة انتخابها، لا تمسك بالسلطة الحقيقية. و تظل هذه السلطة في يد كبار موظفي الدولة ( جنرالات الجيش، قادة الشرطة، كبار القضاة،الخ) و رجال البنوك و كبار رجل الأعمال، الذين يستعملونها لخدمة مصالحهم و ليس مصالح الشعب. لكن، إن كان مجتمع بلا طبقات ممكنا ومرغوبا فيه، فكيف يمكن التخلص من الدولة؟ عند التطرق إلى هذه السؤال الحاسم توحل الفوضوية. لا يسعى بعض الفوضويين إلى الإجابة عليه. و يكتفون برفض فردي محض لسلطة الدولة، و لا يستشعرون بتاتا الحاجة إلى صياغة إستراتيجية متماسكة لإلغاء الدولة. هكذا موقف يفضي إلى مأزق. إذ يترك الدولة حرة في تأبيد اضطهاد أغلبية السكان. و هو أيضا موقف محكوم بالفشل، لأن ما من فرد، ولا مجموعة أفراد صغيرة، قادر في آخر التحليل على مقاومة قوة الدولة. و يحاول البعض الهروب من سلطة الدولة بإقامة مجموعات صغيرة محكومة ذاتيا في القرى، وحتى قرب المطابخ. مع الأسف تواجه الكومونة الفوضوية المصاعب ذاتها التي اعترضت الكومونة الاشتراكية التي دعا إليها روبرت أوين و الاشتراكيين الطوباويين قبل أكثر من 150 سنة، ألا وهي: انه حل غير ممكن سوى على نطاق أقلية صغيرة تظل هذه الأخيرة معرضة لكل ضغوط المجتمع برمته، و ينتهي بها الأمر (عاجلا أو آجلا (عاجلا في الغالب) إلى الفشل. الجواب الأكثر جذرية، و الأكثر جدية، على هذا السؤال هو أن تحطيم الدولة سيكون بثورة، أي بعبارة أخرى، عبر انتفاضة جماهيرية تدمر خلالها الطبقة العاملة، بفعلها المباشر، مؤسسات الدولة الأساسية ( الجيش و الشرطة و المحاكم و السجون، الخ) و تفككها. من وجهة نظر ماركسية، هذا الجواب صحيح كليا – وقد خصص لينين عمله النظري الأهم، كتاب الدولة و الثورة، للبرهنة على أن جوهر الثورة هو تدمير آلة الدولة ( على عكس المفهوم الاشتراكي-الديمقراطي و الإصلاحي حول الظفر بالدولة الحالية). فضلا على أن لهذا الجواب ميزة وصف عملية حدثت فعلا خلال التاريخ، خلال كومونة باريس في العام 1871، ثم في الثورة الروسية في العام 1917. وكانت كل الثورات الشعبية الكبيرة، الألمانية في أعوام 1918-1923، و الإسبانية في العام 1936، و الإيرانية في العام 1979، و الرومانية في العام 1989، أبرزت سيرورات في هذا الاتجاه. على الفور، يثير تدمير آلة الدولة القديمة سؤال البديل. بوجه عام، كانت الفوضوية ملتبسة بهذا الصدد. الجواب الوحيد المنسجم مع المبادئ الفوضوية هو وجوب استبدال فوري لجهاز الدولة القديم بجماعة تحكم نفسها بنفسها بلا دولة و لا حكومة و لا سلطة مركزية. هنا تفقد وجهة النظر الفوضوية كامل قوتها. حسب النظرية الماركسية، عندما تتحقق الاشتراكية على نحو نهائي على نطاق عالمي، وتزول الطبقات، و يبلغ الإنتاج مستوى توافر المنتجات الضرورية للجميع، و عندما تصير عادة العمل لمصلحة الجميع طبيعة ثانية في البشر، ستفقد الدولة وظائفها و تتلاشى. هذا أمر، وإنه لأمر آخر اعتبار انه في عز الثورة، عندما يكون مصيرها قاب قوسين أو أدنى، و هذا حتمي، قد يمكن الطبقة الثورية أن تستغني فورا عن كل استعمال لسلطة ما. سيكون موقف كهذا كارثيا لسببين أساسيين. أولهما أنه لا يأخذ بتاتا بالحسبان المقاومة الحتمية التي تبديها الطبقة السائدة القديمة. فصراع الطبقات لا يكف مع انتصار الانتفاضة. إذ يدل تاريخ كل الثورات على أن الطبقة السائدة القديمة لا يثنيها شيء، ليس فقط للحفاظ على سلطتها بل لاستعادتها عند استبعادها منها. و بما أن ثورة عالمية متزامنة غير مرجحة، يكون بوسع البرجوازيين المجردين من ملكيتهم الاعتماد على مساندة الحكومات و القوى الرجعية بالخارج. يجب على ثورة ظافرة أن تدرك أنها ستواجه رفض البيروقراطيين التعاون، و التخريب الاقتصادي و المقاومة المسلحة، و الإرهاب، و الحرب الأهلية و التدخلات العسكرية الأجنبية. هل يمكن لشعب ثوري أن يدافع عن نفسه ضد هكذا أفعال مضادة للثورة دون الاستعانة بميليشيا أو بجيش عمالي، ودون محاكم شعبية و دون عدالة ثورية، ودون نظام ممركز لاتخاذ القرارات، ودون سلطة ممركزة، أي بعبارة أخرى دون شكل ثوري من سلطة الدولة؟ لا ، لا يمكنه ذلك. تدل على ذلك تجارب تاريخية عديدة، لكن لنتناول مثالا مفترضا. نفترض أن على ثورة في فرنسا أن تواجه عصيانات ينظمها حزب الجبهة الوطنية [أقصى اليمين] في مدينة مرسيليا،مع تدخلات في الشمال الشرقي من قبل عصابات بيضاء مدعومة من ألمانيا. لتأمين دفاعها، سيتعين على الثورة أن تقرر أي قوات تتصدى لهجوم الشمال الشرقي، و أي قوى تواجه الجبهة الوطنية. كما يتعين عليها أن تقرر كيفية تسليح قواها و تموينها. ستكون هذه القرارات قرارات وطنية تتخذها حكومة وطنية . في هذا المجال، لن يكون أي نقص في التنسيق غير مقدمة للهزيمة. ثاني مبرر لدولة ثورية: لا غنى لإرساء نظام اقتصادي جديد عن جهاز دولة. أمور كثيرة ستنجزها المبادرة الشعبية، مثل احتلال المصانع، و الرقابة العمالية على الصناعة، وخلق تعاونيات توزيع،الخ. لكن لا غنى عن دولة في هذا الطور. نتناول مثالا آخر: من سيتملك الصناعات و المنشآت التي سُتنزع من الرأسماليين؟ إذا تملك هذه المصانع عمال كل مقاولة و ليس الدولة الجديدة، سيُعرقل التعاون و التخطيط. و سينبثق تنافس بين مختلف المقاولات، و بالتالي تتكاثر المشاريع الرأسمالية الصغيرة في الاقتصاد. لن يشكل نقل ملكية الصناعات إلى مجمل الجماعة حلا قابلا للتطبيق الفوري. ولن يمكن ذلك إلا في طور لاحق، عندما تظهر جماعة موحدة فعلا. لكن "الجماعة" تكون خلال ثورة مقسمة إلى طبقات و أقسام متعارضة، تحارب بعضها البعض. و من ثمة تحتاج الجماعة الثورية حاجة ماسة إلى مؤسسات تجسد مصالحها. نتناول أيضا مثال العاطلين، و العمال غير المشتغلين بسبب المرض و غيرهم ممن يعيشون حاليا بالتعويضات الاجتماعية المختلفة. في مجتمع اشتراكي كامل التطور (أي فوضوي)، ستكون البطالة قد زالت كليا و المنتجات موزعة حسب الحاجات. لكن بعد الثورة مباشرة، ستتوقف حياة ملايين الناس على تلك التعويضات و على الدولة. وسيموتون جوعا إذا لم يحصلوا على التعويضات. و هذه ناتجة أساسا عن الاقتطاعات من أجور العاملين. و بالتالي لا بد، خلال الأشهر و السنوات التالية للثورة، من سلطة تقوم بجمع الضرائب. لا غنى، و الحالة هذه، عن دولة. هنا يكمن ضعف الفوضوية بصدد هذه المسألة: لها في الغالب تصور رومانسي للثورة. بعد "المساء العظيم" تزول كل المصاعب بفعل قوة الإرادة الخالصة. خلال ثورة، يتعاون عشرات ملايين الأشخاص سويا من أجل تغيير المجتمع. و خلال هذه السيرورة، تتغير تلك الملايين نفسها. فنهوضها السياسي و الاجتماعي، وشعورها بالانتماء إلى جماعة، يتغيران و يتطوران بشكل كبير. و لا يمكن بدون هذا بناء مجتمع جديد. لكن سيرورة التغيير ليست، ولا يمكن أن تكون، كلية ومتجانسة لسبب بسيط متمثل في أن كل أقسام الطبقة العاملة غير منخرطة في النضال بنفس الحدة. لا بل يمكن لأقسام من هذه الطبقة أن تجانب الثورة أو حتى تعارضها. و هذا يصح أكثر بالنسبة لملايين الأشخاص الذين يشكلون الشرائح الدنيا من البرجوازية الصغيرة. و بالتالي، خلال كل المرحلة التالية للثورة، سيكون قسم من السكان متأثرا، بصدد بعض المسائل، بالأفكار القديمة، وسيتبع الطبقة السائدة القديمة. و يجب أن تُفرض عليها أحيانا، بالقوة إن اقتضى الحال، قرارات الأغلبية. من حيث المبدأ، نفس الأمر قائم عندما يقيم العمال المضربون حاجز إضراب لمنع أقلية منهم من نسف حركتهم بالذهاب إلى العمل. ليست الدولة العمالية، في آخر التحليل، غير الشكل الأرقى لحاجز إضراب. يعتبر بعض الفوضويين أن مجرد وجود دولة يعني تشكل نخبة ذات امتيازات مفسدَة بالسلطة، تتطور بسرعة نحو استبداد جديد. لكن هذه الحجة تجهل أن الطبقة العاملة برهنت مرارا على قدرتها على خلق أدوات سلطة ثورية مغايرة تماما، شكلا ومضمونا، للدولة الرأسمالية القديمة. أدوات قائمة على الديمقراطية و المساواة على السواء. وضعت كومونة باريس مبادئ وجوب انتخاب كافة الموظفين، وقابلية عزلهم و اقتصار أجورهم على أجرة عامل. إن السوفييت ( أو مجلس العمال)، الذي انبثق أول مرة في سان بطرسبورغ خلال ثورة 1905 الروسية، ثم امتد إلى مجمل روسيا في العام 1917، قد تجاوز طورا جديدا بانتخاب المندوبين في أماكن العمل، لا سيما المصانع. وقد حسنت هذه البنية بشكل كبير الرقابة من أسفل، بجعل الممثلين مسؤولين أمام المتحدات حيث تمكن النقاشات الديمقراطية. ومذاك ظهرت مجالس عمالية خلال الثورة الألمانية في 1918-1919 ، و في ايطاليا في العام 1920، و في المجر عام 1956، و بشكل جنيني في الشيلي عام 1973، و في إيران عام 1979، وفي بولونيا عام 1980. لا تقوم مجالس العمال وفق خطة مدروسة بعناية وموضوعة سلفا. إنها الشكل التنظيمي البديهي الذي تتبناه الطبقة العاملة عندما يبدأ نضالها يضع موضع سؤال النظام برمته. وتمثل نواة الدولة العمالية القادمة، التي ستحل مكان جهاز الدولة الرأسمالي و تشرع في الانتقال إلى مجتمع لاطبقي، تضمحل فيه الدولة. السؤال الأساسي هو التالي. طبعا، ليست الدولة مؤسسة أبدية، لكنها ليست مجرد ثمرة خطأ أو أفكار غير متنورة صاغها البشر، و أبقتنا في جهل و بؤس حتى جاء الفوضويون ليشرحوا لنا أن البشرية ليست بحاجة إليها. فالدولة تنبثق من بعض الظروف الاقتصادية و الاجتماعية – أولها، قبل غيرها، انقسام المجتمع إلى طبقات متصارعة على أساس مستوى منخفض من قوى الإنتاج- و لا يمكن إلغاؤها إلا بتغيير جذري لتلك الظروف. و لا بد، لإنجاز هذه التغييرات، من شكل ثوري جديد من الدولة. برفض قبول هذا، تحكم الفوضوية على نفسها، رغم كل نواياها الحسنة، بالإفلاس. و عندما تهيمن الفوضوية في حركة ثورية فإنها تقود الثورة إلى الإفلاس. 3- الرؤية الفوضوية للقيادة غالبا ما يعلن الفوضويون رفضهم لكل قيادة. هذا أمر قابل تماما للفهم. في مجتمع رأسمالي، تعتبر الطبقة السائدة دوما أنها ُخلقت للقيادة. وتلك إحدى "المزايا" الأولى التي تحاول ترسيخها في أذهان ذريتها بمختلف مدارس تكوين نخبها. هكذا ُتربط "القيادة" بالغطرسة و التخويف و الامتيازات. و الفوضويون على حق حينما يرفضون هذا. و لا تعطينا القيادات السياسية "اليسارية" صورة أفضل. فعلى امتداد القرن العشرين، كانت صفة قائد "اشتراكي" أو اشتراكي-ديمقراطي مرادفا للاعتدال و للترقي الاجتماعي. كان المسار الكلاسيكي لمناضل هو التالي: الظفر بدعم من القاعدة باستعمال خطابة و سياسة ظاهرهما جذري، ثم البروز التدريجي في الحركة بالتجرد من المبادئ واحدا تلو الآخر، حتى صيرورة عضو كامل العضوية في النخبة السياسية، ببزة و ربطة عنق، و سيارة بسائق، وأجرة مرتفعة، وعلاقات متعددة مع أوساط رجال الأعمال و الموظفين، أي بعبارة أخرى الوقوع في أسر النخبة التي ادعى نية تغييرها. وقد كان مسار القادة النقابيين على نفس المنوال. بمجرد ما يصبحون مداومين [متفرغين للنقابة]، يتخلون عن الظروف الصعبة لقاعدتهم نحو رفاهية المكتب. ويزول ارتباط أجرهم و ساعات عملهم بأجور و ساعات عمل من يمثلون. ويبدؤون مراكمة الامتيازات. وظيفتهم الوساطة بين العمال و إدارة المقاولة. و يقضون من الوقت مع الإدارة أكثر مما يقضون رفقة قاعدتهم. و يغدو الإفساد بمعناه السياسي، وحتى المالي، حتميا إلى هذا الحد أو ذاك. وبسرعة يبلغون مستوى اعتبار الإضرابات و نزاعات العمل هي المشكل. و يتضاءل، شيئا فشيئا، انشغالهم بالتكتيك الضروري لانتصار العمال. و يعتبرون أن أفضل سبل تجاوز تلك النزاعات هو الحصول على تنازلات صغيرة ستقبلها قاعدتهم. إن قيادة من هذا الطراز كارثية من الناحية السياسية. خلال النضالات الكبرى، عندما ينخرط العمال في المعركة، و يمسكون زمام أمورهم بأيديهم، تكون غريزة قادة من هذا القبيل محاولة تهدئة الأمور و العودة إلى وضع "عادي". و إذا كان هذا سيستتبع خيانة القضية المفترض أنهم يمثلونها فسيخونونها. و تمدنا أحداث مايو 1968 بمثال كلاسيكي. فقد كانت حركة الطلاب و العمال العفوية على نحو استثنائي قد هددت نظام دوغول بالمواجهات الجماهيرية في أزقة باريس، و باعتصامات الطلاب، و بالإضراب العام لعشرة ملايين عامل مع اعتصامات عديدة في المصانع. قام "قادتها"، وأغلبهم مسؤولون بالحزب الشيوعي و بنقابة الاتحاد العام للعمل، بكل ما أوتوا لاحتواء تلك الحركة المنطوية على طاقة ثورية، و الاكتفاء بجملة مطالب هي بالأحرى متواضعة حول الأجور و ظروف العمل. و بذلوا المستطاع ليعيدوا الجميع إلى العمل في أقرب وقت. يمكن بسرعة أن نستنتج من هذه التجارب، الكثيرة في تاريخ النضالات العمالية و الحركة الثورية، أن وجود قيادة يطرح بحد ذاته مشكلا. و أنه يجب الاستغناء عن القيادة. مع الأسف يطرح هذا الاستنتاج صعوبة منيعة. إن وجود " قيادات" أمر واقع، و ليس نتيجة أفكار خاطئة، أو إرادة أفراد أو بعض الهياكل التنظيمية. انه ينبع حتما من تنوع التجارب. حتى في أعمال العصيان الأكثر عفوية، من مظاهرات و إضرابات و انتفاضات، التي أبان التاريخ أنها لم تتزود بقيادة أو هياكل شكلية، يمكن أن نكتشف عند دراستها بدقة وجود قيادة أو هياكل لاشكلية، منها الشخص الذي يعطي إشارة الهجوم في اللحظة الحاسمة، و أولئك الذين يتقدمون الحشود، و الشخص الذي رمى أول حجر، الخ. ولا ُتستثنى الفوضوية من هذه الظاهرة. فمهما بلغ عداء الفوضويين لفكرة القيادة، كان لحركتهم دوما قادة في الواقع. تاريخ الفوضوية- مثل تاريخ الاشتراكية و بالأحرى الحركات المحافظة- هو جزئيا تاريخ قادتها: برودون، كروبوتكين، ماخنو، غولدمان، فولين، و حتى دانيال كوهن بنديت. إن الحركات الفوضوية، إذ ترفض شكليا الاعتراف بوجود قادة، لا تسهل الأمور. فكون القادة الفوضويين غير منتخبين شكليا، يحول دون عزلهم أو إخضاعهم للرقابة الديمقراطية. لذا تكون الحركات الفوضوية مطبوعة على نحو خاص بممارسة قيادات معلنة لذاتها، و تعيد تنصيب نفسها، وحتى معينة من طرف وسائل الإعلام ( عانت الحركات الطلابية العفوية لسنوات 1960 بشكل كبير من ممارسة و سائل الإعلام عملية انتقاء "النجوم" هذه و دفعها إلى الواجهة). إذا كانت الفوضوية عاجزة عن حل مسألة قيادتها الخاصة، فهي أعجز عن حل مسألة قيادة الطبقة العاملة برمتها. و تاريخيا كانت الاشتراكية الديمقراطية أو الستالينية هي من قاد الطبقة العاملة، ومن ثمة كثرة الخيانات و الهزائم و الاستسلامات من لدن الأممية الثانية بوجه النزعة الوطنية في العام 1914 و بوجه هتلر في العام 1933 و صولا إلى تواطؤ الحزب الاشتراكي الفرنسي اليوم مع العنصرية. بوجودها ذاته، تشكل الفوضوية تحديا وبديلا ممكنين لهيمنة تلك القوى. إن مجرد إنتاج كتب، وكراسات، و جرائد، و مناشير، وحتى إلقاء خطابات، يشكل بالنسبة للفوضويين معركة من أجل التأثير على يسار الطبقة العاملة. لكن رفضهم لفكرة القيادة، ومن ثمة امتناعهم عن النضال سياسيا و تنظيميا للظفر بقيادة الطبقة العاملة، يجعلهم يساهمون ليس في تحررها ، بل في تأبيد هيمنة القادة الخونة، الاشتراكيين الديمقراطيين أو الستالينيين. لا يمكن التخلص من المسألة بقول:" ليس القيادة ما يهم بل الجماهير". إن التصور البرجوازي للتاريخ، بنزعته النخبوية و الفردانية المنهجيتين، يبالغ طبعا أهمية القيادة، لدرجة اختزال التاريخ في تعاقب الملوك، و الأباطرة، و الجنرالات، والرؤساء. و هذا ما لا يمكن أن ينساه ماركسي، أكثر من سواه. لكن فعل القادة له دور. ليس بوسع القادة تدبر الثورات، أو بالعكس، إطلاق حركات جماهيرية بمحض إرادتهم. و أكثر من ذلك، ليس بمقدورهم القيام بثورات. وحدها الجماهير قادرة على ذلك. لكن عندما توجد حركة جماهيرية ووضع ثوري، قد يؤثر دور القيادة، بشكل ملموس، على النتيجة، وأحيانا، قد يشكل عاملا محددا للنصر أو الهزيمة. كانت الحركة العمالية الجماهيرية في ألمانيا، أثناء صعود هتلر إلى السلطة (1929-1933)، موزعة بين الحزب الاشتراكي الديمقراطي و الشيوعيين. لو وحدت قواها لنجحت من وقف النازيين. تعرقلت الوحدة من جهة بفعل إرادة القادة الاشتراكيين الديمقراطيين، كالمعتاد، تفادي كل مواجهة، ومن جهة أخرى بفعل القادة الشيوعيين الذين كانوا يتبعون أوامر ستالين القاضية بتركيز نيرانهم على الاشتراكيين الديمقراطيين و ليس على النازيين. كلاهما سهل بشكل كبير صعود هتلر إلى السلطة. لذا، و بالنظر إلى استحالة تجاهل مسألة القيادة بكل بساطة، يبقى البديل الوحيد لدى من يريدون تغيير المجتمع جذريا هو العمل لبناء قيادة ثورية فعلا: تكون تحت الرقابة الديمقراطية لأنصارها، تقاوم المفعول المفسد للنظام، تكون قادرة على تبصر طريق النضال الواجب انتهاجه إن البلبلة النظرية للفوضوية حول هذا الأمر، و صنميتها المناهضة للقيادة، يجعلانها عاجزة عن الاضطلاع بهذه المهمة. 4- الفوضوية و الحزب الثوري تثير مسألة القيادة الثورية مباشرة مسألة الحزب الثوري. و إن معارضة الفوضوية لفكرة حزب أقوى من عدائها للدولة و لكل قيادة. مرة أخرى، هذا أمر قابل للفهم كليا. فقد كانت أحزاب تدعي أنها ماركسية، و لينينية ، وعمالية، الأدوات الرئيسية لاضطهاد و استغلال ملايين العمال في البلدان الشيوعية المزعومة. أثار هذا ردود فعل على نمط واحد في عدائها للحزب. عندما ندرك الطبيعة المحافظة، و البيروقراطية، و الانتهازية للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية و الإصلاحية، و نعرف العصبوية الخانقة المميزة لبعض منظمات اليسار الراديكالي، يصبح الارتياب من فكرة حزب حتميا على الأرجح. مع ذلك، يمثل بناء حزب ثوري أمرا حاسما سواء لقيادة النضال الطبقي يوما بيوم، أو لتأمين نجاح الثورة القادمة. يعود هذا إلى سببين لا محيد عنهما. أولهما أن الطبقة العاملة ستضطر إلى مواجهة عدو بالغ المركزية و فائق التنظيم. يتطلب هزم الطبقة العاملة لهكذا عدو أن تنظم قواها الخاصة. وهذا صحيح بالنسبة لكل مكان عمل، و في كل صناعة. هنا يواجه العمال سلطة الرأسمال الممركزة. إن التنظيم ووحدة عمل الأجراء هما الشرطان الأوليان لكل مقاومة فعالة. فالعمال الذين يحاولون مواجهة رب العمل فرديا، بلا تنظيم جماعي لدعمهم، يتعرضون للطرد بكل بساطة. ضرورة التنظيم هذه يدركها كل عامل له حد أدنى من الوعي الطبقي و السياسي. لذا فإن الفوضويين الذين يرفضون فكرة التنظيم يحكمون على أنفسهم بالانعزال عن الطبقة العاملة. المبرر الثاني الأساسي لضرورة حزب ثوري هو كون وعي الطبقة العاملة السياسي يتطور دوما على نحو متفاوت. فوسائل الإعلام الواقعة تحت تحكم الرأسماليين، و نظام التعليم، و الكنيسة، ومؤسسات أخرى عديدة، تضمن للأيديولوجية الرأسمالية أن تمارس، في ظروف "عادية" ، أي خارج فترات النضالات الثورية الجماهيرية، تأثيرا قويا على وعي أغلبية العمال. طبعا ليست رؤوس هؤلاء خاوية، إذ أن تجربتهم في الاستغلال، و الاضطهاد، و الفقر و البطالة تجعلهم أيضا يعترضون على ما يقوله لهم قادة النظام. بوجه عام، يمثل وعي العمال الطبقي مزيجا من الخلاصات التي يستنتجون من تجربتهم و أفكار رجعية تم ترسيخها في أذهانهم. مثلا، يكره عمال عديدون رب عملهم، و يدركون أن ثمة قانونا للأغنياء و آخر للفقراء. لكنهم قد يقبلون في الآن ذاته أحكاما مسبقة عنصرية ، جنسوية، و غيرها. وقد يكون عمال آخرون معادين للعنصرية، و للميز الجنسي، و يقبلون مع ذلك تعذر اشتغال الصناعة بلا محرك الربح. في الظروف العادية، وحدها أقلية من العمال تعارض منهجيا و بتماسك الرأسمالية و ترفض أفكارها. هذا ما يجعل وجود منظمة سياسية قائمة على هذه الأقلية العمالية الواعية سياسيا أمر جوهريا، بغاية قيادة النضال من أجل الأفكار الثورية داخل الحركة بمجملها، و قيادة نضالات الطبقة العاملة و المضطهدين. لذا ليست الإستراتيجية المتبعة من قبل فوضويين عديدين، يقبلون ضرورة منظمة للطبقة العاملة- أي إستراتيجية النقابية الفوضوية- مواتية. تعارض النقابية الفوضوية فكرة حزب سياسي ماركسي بفكرة نقابية ثورية. يمثل هذا التيار خطوة إلى أمام قياسا بالفوضوية الفردانية، لأنه يتوجه نحو الطبقة العاملة. لكنه تقدم غير كاف. النقابات منظمات جماهيرية مشكلة من العمال بقصد التفاوض و النضال حول الأجور و ظروف العمل في إطار علاقات الإنتاج الرأسمالية. و يتعين عليها، كي تقوم بهذه الوظيفة بفعالية، أن توسع إلى أقصى حد صفوف أعضائها. و الحالة الأمثل هي أن تضم النقابة كل عمال المقاولة، و فرع الإنتاج و الصناعة، ما عدا كاسري الإضرابات المعروفين، و الفاشيين، الخ. لهذا تنظم النقابة حتما، وعن حق، عددا كبيرا من العمال مشوشي الأفكار، وحتى الرجعيين بصدد بعض المسائل. لا بد إذن من نمط آخر من التنظيم العمالي، أي الحزب السياسي، الذي يخوض المعركة حول الأفكار، و الإستراتيجية و القيادة الثورية داخل النقابات، كما في باقي شرائح المجتمع غير المنظمة في النقابات أو في أماكن العمل (العاطلون، الطلاب، النساء بالبيوت، الخ). الفوضويون الذين لا يدركون ضرورة نضال منسق من أجل الأفكارالثورية، و يشكلون بالتالي منظماتهم النقابية المتميزة عن الاتحادات العمالية الكبرى، إنما يبنون في الواقع أحزاب فوضوية لا تريد أن تسمي نفسها. يرفضون الاعتراف صراحة بذلك، لكنهم لا يتفادون المشاكل التي تشهدها باقي المنظمات. انه بالأحرى مكمن ضعف بوجه هذه المصاعب، لأن بلبلتهم بصدد المسألة، مثل بلبلتهم بصدد الدولة و القيادة، تمنعهم من تطوير إستراتيجية متماسكة أو صياغة فكرة ما واضحة عن بنيات منظمتهم الخاصة و دورها. إن ضرورة منظمة عمالية طبقية، و تفاوت تطور وعي العمال واقعان قائمان. لا جدوى من إنكارهما، سوى الظن أن إضفاء المثالية على الطبقة العاملة أمر ثوري. الاعتراض الفوضوي الأكثر شيوعا مؤداه:" دلت التجربة أن الأحزاب التي تعلن نفسها ثورية تنحط حتما، و تتبقرط، و تشجع النخبوية و التحكمية و عيوب أخرى. و يتسائل الفوضوي قائلا : ما ضمانة ألا يتبع الحزب الذي تقترح نفس الطريق؟" طبعا، ما من ضمانة مطلقة ألا يتبع هذا المسار، مثلما لا توجد ضمانة مطلقة لانتصار الثورة، أو نجاح مظاهرة أو إضراب، وبالتالي أيضا انتصار الفوضوية. الطريق الواقعي الوحيد هو أولا تحديد أسباب انحطاط كل تلك المنظمات و الأحزاب العمالية، ثم تحديد ما العمل لاتقائه. غالبا ما يفسر الفوضويون الأمر بتعطش خاص لدى القادة إلى السلطة، أو التحكمية المميزة لبعض الأشكال التنظيمية مثل المركزية الديمقراطية. التفسير الأول متهافت، لأن الانحطاط البيروقراطي لم يقتصر على الأحزاب اللينينية بل شمل كل أشكال التنظيم العمالية، من أحزاب إصلاحية جماهيرية و نقابات، وحتى منظمات فوضوية. و على العكس، يفسر الماركسيون هذا الميل إلى التبقرط بالضغوط التي يمارسها على المنظمات العمالية المجتمع الرأسمالي ذاته حيث تولد تلك المنظمات. تمارس تلك الضغوط على صعيدين. فمن جهة، يؤدي الاستغلال و الاضطهاد و العمل المستلب الذي تمارسه الرأسمالية على العمال إلى كبح تطور ثقتهم في الذات و تطور الوعي الضروري لمراقبة قادتهم. ومن جانب آخر، تمارس الرأسمالية، بحكم طبيعتها بالذات، تأثيرا مفسدا مستمرا على القادة، يميل مباشرة أو مداورة إلى عزلهم عن قاعدتهم. هذه العناصر حاسمة لتفسير المثال الأكثر مأساوية عن انحطاط حركة ثورية، مثال تحول البلشفية إلى الستالينية. أدت ضغوط الرأسمالية العالمية على الثورة الروسية بالتدخل العسكري، و الحرب الأهلية الداخلية المدعومة من خارج، إلى تفكيك الطبقة العاملة التي حققت ثورة 1917. تلك الطبقة التي بلغت آنذاك مستوى عاليا من الوعي و الثقة بالذات أهلكتها الحرب و المجاعة و الأوبئة و الانهيار الاقتصادي. وكانت عاجزة عن الاستمرار في ممارسة سلطتها الديمقراطية على المجتمع برمته. وكان تبقرط القيادة نتيجة ذلك المحتمة. ومن جهة أخرى،كان ضغط الرأسمالية على تلك القيادة البيروقراطية (المجسدة بستالين) قد دفعها إلى التخلي عن الثورة العالمية ( القادرة، دون سواها، على إنقاذ روسيا العمالية). و سارت في تنافس مع الرأسمالية على أرضيتها الخاصة بإرساء استغلال رأسمالي دولاني بقصد تحقيق تراكم رأسمالي. [*] وفي ظروف مغايرة، أدت نفس الضغوط إلى سيطرة شريحة من الموظفين النقابيين على النقابات و الممثلين البرلمانيين على الأحزاب الإصلاحية. كيف يمكن لحزب ثوري، و الحالة هذه، الاحتماء من تلك الضغوط التي سيتعرض لها دوما داخل المجتمع الرأسمالي؟ ثمة أربع إجراءات أساسية: يجب على الحزب أن ينخرط في النضالات العمالية اليومية. إذ تمارس العلاقة الناتجة عن ذلك ثقلا موازنا لضغوط الرأسمالية. و بالعكس تستند الأحزاب الإصلاحية أساسا على سلبية العمال، فيما لا تنسج العصب السياسية أي علاقة مع الطبقة العاملة. يجب أن يتبنى الحزب مبادئ ثورية. فهذا يبعد من صفوفه العناصر الانتفاعية أو المتخلفة التي يسهل التلاعب بها. و يجب، لأسباب جلية، ألا تستتبع مناصب القيادة في الحزب أي امتياز مادي. يجب أن تُقرن بنية الحزب الديمقراطية ( النقاش الحر لسياسته، وانتخاب القادة ومراقبتهم) بالمركزية (وحدة الفعل لتطبيق قرارات الأغلبية). غالبا ما يعتبر الفوضويون المركزية و الانضباط آلية تحكم من فوق. و في الواقع هي تشكل في حزب ثوري أداة للديمقراطية لأنها تتيح تطبيق سياسة الحزب من قبل القادة. انه وضع مناقض لوضع المنظمات الممركزة حيث القادة "أحرار" في تجاهل سياسة الحزب أو رسمها هم أنفسهم بلا رقابة. في نهاية التحليل، العلاقة الحية بين الحزب و النضال الطبقي هي التي ستكون حاسمة. و لا يمكن تأمين هذه العلاقة مسبقا حتى بأفضل الأنظمة الداخلية. ومع ذلك لا غنى لانتصار الثورة عن حزب. إن المركزية الديمقراطية اللينينية هي التي تمنح الوسائل المناسبة لمقاومة الضغوط التي يمارسها المحيط الرأسمالي على الأحزاب العمالية. لا تقوم الفوضوية، إذ ترفض كل حزب، و الحزب اللينيني بوجه خاص، سوى بالإسهام في نزع السلاح السياسي و التنظيمي للطبقة العاملة. إن الطريق الذي تقترح هو طريق هزيمة الثورة. 5- الجذور الاجتماعية للفوضوية إن الرؤية الرأسمالية للعالم، السائدة في وسائل الإعلام ونظام التعليم، تعتبر مختلف الأيديولوجيات صنائع مفكرين استثنائيين، يحللون العالم من وجهة نظرهم الخاصة، بواسطة القيم و حدة الذهن و المسبقات الخاصة بهم، الخ. وهذه الأيديولوجيات المتباينة- المحافظة و الليبرالية و الاشتراكية و الفوضوية متنافسة في سوق الأفكار من أجل أفضل تمثيل للمصلحة العامة و الوطنية. لا يتصور الماركسيون الأيديولوجيات على هذا النحو. صحيح أن الأيديولوجيات غالبا ما يضعها أو يعبر عنها لأول مرة فرد (ماركس مثلا فيما يخص الماركسية). لكن فكر الأفراد مكيف بعمق بموقعهم الاجتماعي و تجربتهم. و الأيديولوجيات غالبا ما يطورها و يعيد صياغتها عدد كبير من الناس. و إذا كسبت إحداها قاعدة اجتماعية هامة، فلأنها تطابق الظروف و المصالح و التطلعات الخاصة بمجموعة اجتماعية محددة وتعبر عنها على نحو متماسك. ليست هذه السيرورة بسيطة و لا هي آلية. فما من إيديولوجية تعبر بجلاء و بالضبط عن المصالح الحقيقية لمجموعة اجتماعية خاصة، ويتبناها كل أعضائها. على العكس، غالبا ما تكون العلاقات بين الأيديولوجيات و جذورها الاجتماعية معقدة و مشوهة. إن المجموعات الاجتماعية متراكبة ومتفاعلة و متبادلة التأثير. بيد أن لرؤى العالم تلك جذور اجتماعية. المجموعات الأساسية للمجتمع هي الطبقات الاجتماعية ( المحددة بموقعها في عملية الإنتاج)، ومن ثمة فإن للأيديولوجيات جذورا طبقية و قاعدة طبقية. إن الرؤية المحافظة ( بكل تنويعاتها، التورية torysme في بريطانيا، و الديمقراطية المسيحية بأغلب بلدان أوربا) تمثل جيدا الأيديولوجيا السائدة للطبقة الرأسمالية اليوم. وقد كانت ليبرالية القرن التاسع عشر أيديولوجيا البرجوازية الصناعية الصاعدة. وفقدت، منذئذ، تفوقها لتصبح انعكاسا لخليط من مصالح قسم من الطبقة الرأسمالية وقسم من الطبقة المتوسطة، أو البرجوازية الصغيرة. وكانت الاشتراكية نظرية الطبقة العاملة، لكن الاشتراكية-الديمقراطية و الإصلاحية أعادت صياغتها لتخدم مصالح بيروقراطية الأحزاب العمالية و الحركة النقابية. وكانت الستالينية في الاتحاد السوفييتي إفسادا للاشتراكية بقصد خدمة مصالح بيروقراطية رأسمالية الدولة السائدة [*]. تسعى الماركسية الكلاسيكية ( أو الاشتراكية الثورية) إلى التعبير عن مصالح الطبقة العاملة. إنها تحليل عام للتاريخ، و المجتمع و السياسة من وجهة نظر الطبقة العاملة، وقائم على تجربتها. وبالتالي، لا تكب الأيديولوجيات المتنافسة على سعي مترفع إلى المصلحة العامة، بل هي جزء لا يجزأ من مشاريع مختلف الطبقات و الفئات الاجتماعية لتغليب إرادتها داخل المجتمع. فالاعتراض الأساسي بوجه النزعة المحافظة، على سبيل المثال، ليس طابعها المتجاوز تاريخيا أو الطابع الخاطئ لبعض أطروحاتها، بل كونها تمثل ( بنجاح
مع الأسف) مصالح الطبقة المستغلة [ بكسر الغين].
ما هي، و الحالة هذه، الجذور الاجتماعية للفوضوية؟ وعن تجربة أي فئات اجتماعية تعبر؟ هذه الأسئلة حاسمة لتقييم إجمالي للفوضوية بما هي أيديولوجيا. كما سبق أن أكدنا، تكتسي الفوضوية أشكالا متعددة. و بالتالي يتعذر إعطاء جواب بسيط لهذه الأسئلة. سنتناول الأمر بمنهجية استبعاد الحالات. أولا، جلي أن الفوضوية ليست أيديولوجيا الطبقة الرأسمالية، فهذه وفية كليا لحماية دولتها و نظامها الاجتماعي. و هي ليست أيديولوجيا ذلك القسم من البرجوازية الصغيرة، أرباب عمل المقاولات و التجارة.. الخ ، الذي يقبل وهو تحت سلطة الطبقة الرأسمالية أيديولوجيتها المحافظة، لكنه قد يترجح نحو الفاشية في زمن الأزمة الاقتصادية و الاجتماعية القصوى، عندما يكون وضعه و مدخراته مهددين. كما أن الفوضوية ليست أيديولوجيا تلك الفئة المتميزة من البرجوازية الصغيرة في الرأسمالية الحديثة، فئة مسيري و مدراء المؤسسات المحلية و الشؤون الاجتماعية، الذين يتبنون، عندما ينتفضون ضد النزعة المحافظة، الليبرالية أو الإصلاحية الاشتراكية الديمقراطية، مع تعاطف مع " الرأسمالية ذات الوجه الإنساني". لكن هل بوسع الفوضوية ادعاء تمثيل نظرية للطبقة العاملة؟ باستثناء النقابية الفوضوية، التي سنعود إليها لاحقا، الجواب بالنفي بكل جلاء. أولا، لأن مفكرين فوضويين ُكثر يرفضون الطبقة العاملة أو ينكرون قدرتها على أن تصير عامل التغيير الاجتماعي. وثانيا، لأن الموضوعات السائدة في الفكر الفوضوي – الفردانية و العداء للتنظيم (أو في أفضل الحالات اللبس بهذا الشأن)، ورفض الدولة بوجه عام - هي غريبة عن تجربة العمال و حاجات النضال العمالي. الطبقة العاملة طبقة ميالة إلى التشريك بحكم موقعها الاجتماعي و الاقتصادي في المجتمع الرأسمالي. تجمع الصناعة الرأسمالية العمال في متحدات في المصانع و باقي أماكن العمل. والعامل بصفته منتجا عنصر من قسمة عمل معقدة تتطلب تعاونا و انضباطا. هذا الانضباط مفروض في ظل الرأسمالية من فوق من طرف رب العمل و المسير و رئيس العمل. وبعد الثورة سيسود التنظيم الذاتي للجماعة، لكن سيبقى ثمة عنصر انضباط لأنه لا غنى لكل إنتاج صناعي عنه. لا يمكن للعمال، ضحايا الاستغلال، أن يقاوموه، و لا أن يحسنوا ظروفهم إلا بواسطة التنظيم و النضال الجماعيين. و لحماية عناصرها الأكثر هشاشة – المرضى و المتقاعدين و المسنين و العاطلين و الأطفال- لا بد للطبقة العاملة من النضال من أجل حلول جماعية من قبيل التعويضات، و نظام صحة وطني،الخ. وأخيرا، لا يمكن للطبقة العاملة أن تتملك وسائل الإنتاج إلا بصفتها جسما جماعيا بواسطة دولتها الخاصة. إن روح الفوضوية غريبة كليا عن مستلزمات الطبقة العاملة هذه. هذا ما جعل الفوضوية تخفق دوما في كسب دعم أقسام هامة من الطبقة العاملة في أي بلد رأسمالي مصنع. و بالتالي، لا تمثل الفوضوية أيديولوجيا للطبقة العاملة، و لا أي من الطبقات الكبرى للرأسمالية الحديثة. يستدعي إبراز جذورها الاجتماعية اعتبار أقسام أكثر هامشية من المجتمع الرأسمالي. لقد مثل التاجر الصغير و الحرفي في القرن 19، الكُـثر بوجه خاص في فرنسا، إحدى المصادر الأصلية للفوضوية. كان الحرفيون، مثل عمال المهن المؤهلين، فقراء و مضطهدين، لكنهم كانوا يعملون بمفردهم و يملكون وسائل إنتاجهم المتواضعة. و بهذا المعنى، كانوا يرتبطون بالبرجوازية الصغيرة. كانوا يمقتون الدولة و الرأسماليين الذي يضطهدونهم و يستغلونهم، وكذا النظام الرأسمالي الذي يدوسهم. لكن تعوزهم القوة الجماعية للطبقة العاملة. وكانت الفوضوية تمثل، بالنسبة لهذه الشريحة الاجتماعية، حلم جماعة متساوية من صغار المنتجين المستقلين. وكانت إحدى مصادر بدايات الفوضوية متمثلة في الفلاحين. وقد كان الفلاحون، بوجه عام، أفقر طبقات المجتمع الرأسمالي و أكثرها عرضة للاضطهاد. لكنهم، مثل الحرفيين، ينتجون على نحو فردي و يملكون قطعة أرضهم الخاصة أو يتطلعون إلى ملكيتها. إنهم جزء من البرجوازية الصغيرة. هذه الطبقة المتمردة تكره الدولة، قابضة الضرائب و المدافع عن كبار ملاكي الأراضي، تلك الدولة التي يرون فيها أيضا قوة احتلال سيتيح طردها العودة إلى حياة "عادية". و تبعية الاقتصاد القروي إزاء الصناعة و المدينة، مثل حاجاته إلى أدوات و آلات زراعية، لا تظهر مباشرة، وبالضرورة، للفلاح الذي يمكن إيجاز موقفه من الدولة كالتالي:" انصرف، اتركني اشتغل في أرضي بسلام". إن حلم جمهورية منتجين صغار هذا شبيه جدا بحلم الحرفي وقد يجد تعبيرا له في الفوضوية. و لسوء حظ هذه العقيدة، يمثل الحرفي و الفلاح فئات اجتماعية آفلة في المجتمع الرأسمالي. فالتقدم المحتوم للصناعة الحديثة نسف موقع الحرفي العاجز عن منافسة الإنتاج الكثيف، و دفعه إلى تضخيم صفوف العمل المأجور. و انتشل التطور الاقتصادي ذاته ملايين الفلاحين من الأرض، و جرهم بفرص عمل و ظروف عمل أفضل بالمدن الكبرى. و نتج عن ذلك تمدين وبلترة كثيفين. هذه الظاهرة هي التي ولدت النقابية الفوضوية. وهذا الاتجاه هو الشكل الذي تتخذ الفوضوية الأكثر تطابقا مع الوضع الطبقي للبروليتاريا، و يمثل تحولا للمبادئ الفوضوية "المحض" في اتجاه اشتراكي. إنها أيديولوجيا مساومة، تتخلى عن ارتياب الفوضوية إزاء التنظيم الجماعي و الانضباط و ضرورة قيادة، أي ما يكفي لقبول النقابة العمالية، لكن ليس ما يكفي لقبول ضرورة حزب ثوري و النضال من أجل السلطة السياسية. هذه المساومة مطابقة للوضع الانتقالي للفلاحين المبلترين حديثا، و الذين لم يقطعوا بعد مع التقاليد قبل الصناعية و كل الروابط التي تشدهم إليها. لم نتحدث، حتى الآن، سوى عن الفوضوية و النقابية الفوضوية للقرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، الممثلين ببرودون و باكونين وكروبوتكين و ماخنو وفولين و غولدمان و بركمان. ازدهرت هذه الحركات في لحظات مختلفة و بأشكال متباينة في فرنسا، و ايطاليا، و روسيا، و الولايات المتحدة الأمريكية، و المكسيك، و اسبانيا خلال الأطوار الأولى للتصنيع و التمدين بتلك البلدان. و بلغت الذروة خلال مأساة الحرب الأهلية الإسبانية. لكننا لم ندرس بعدُ القاعدة الاجتماعية للفوضوية في الرأسمالية المتقدمة المعاصرة حيث لم يعد الفلاحون و الحرفيون المبلترون يمثلون قوة اجتماعية ذات وزن. أورد المؤرخ الفوضوي جورج وودكوك George Woodcock في الطبعة الأولى من دراسته الكلاسيكية حول الفوضوية ( الفوضوية، تاريخ الأفكار و الحركات التحررية، الصادر في 1960-1961) أنه اعتبر هذه الحركة ظاهرة منتمية إلى الماضي، و أنه شهد نهايتها مع سقوط برشلونة بيد فرانكو في العام 1939. لكن، يضيف وودكوك ، أنه أعلن بالكاد وافتها فشهد ميلادها من جديد. أعادت سنوات 1960 الحياة للفوضوية. استفادت هذه من التجذر العام الذي طبع ذلك العقد، و بالمقام الأول من التمردات الطلابية بالولايات المتحدة الأمريكية، و ألمانيا الاتحادية، و ايطاليا، و بريطانيا، وبوجه خاص فرنسا. كان الطلاب، خلال تلك السنوات، منجذبين إلى جملة عريضة من الأفكار- الماوية، و الغيفارية، و التروتسكية، و السلمية، و التحررية،الخ. ليس طارئا أن الحركة الطلابية بمجملها ذات حساسية فوضوية. كان طلاب سنوات 1960 مختلفين جدا عن سابقيهم قبل الحرب. فقد تضخمت صفوفهم في سياق توسع التعليم الجامعي المطالـَب بالاستجابة لحاجات الازدهار الاقتصادي لما بعد الحرب. ورغم أن أغلبيتهم متحدرة من البرجوازية الصغيرة، فقد باتوا قادمين من فئات اجتماعية أخرى. و كان التغير واضحا قياسا بالوضع السابق. ولم تعد الشهادة الجامعية ضامنة لفرصة عمل قارة في الشرائح الحاكمة أو المتوسطة في المجتمع. ولم تواكب الإمكانات المخصصة للتعليم ارتفاع أعداد الطلاب. وكانت قاعات الدراسة مكتظة. ونتج عن ذلك كله غضب الطلاب، حيث تكون لديهم انطباع بأنهم وضعوا في سلسلة إنتاج من أجل حاجات الصناعة الرأسمالية. و في الآن ذاته، ظلوا من الناحية الاجتماعية و الثقافية مفصولين عن الطبقة العاملة. و مستلهمين لنضال السود بالولايات المتحدة الأمريكية، و للثورات المناهضة للامبريالية بالعالم الثالث ( و التي كانوا يضفون عليها مثالية)، وتحت وقع ما مثلت حرب الولايات المتحدة الأمريكية على فيتنام من إهانة، تمرد الطلاب ضد البنية الاستبدادية داخل الجامعات، و مجتمع الاستهلاك، و القيم الإمتثالية لسنوات 1950، و اعتدال اليسار التقليدي و دمجه في هذا المجتمع. وعبر مزيج غريب من الاشتراكية التحررية و الفوضوية عن التطرف الجذري لتمرد الطلاب و كذا عن عدم استقراره الناتج عن انعزاله عن الطبقة العاملة. منذ سنوات 1960، خلقت الرأسمالية شريحة اجتماعية جديدة مدت الفوضوية بقاعدة جديدة. أدى تعمق أزمة النظام الاقتصادية، المتجلية في ثلاث انحسارات اقتصادية عالمية (1974-1980-1990) إلى انبعاث بطالة جماهيرية. بوجه عام لم تبلغ مستويات البطالة نظيرها في سنوات 1930، لكنها تمثل أضعاف مستويات سنوات 1950 و1960. وكان ثمة بوجه خاص نمو سريع جدا و عنيف لبطالة الشباب. و ظهرت ضمن الشباب العاطل شريحة اجتماعية ليست لها، أو تكاد، أي تجربة عمل قار، ومنفصلة أكثر فأكثر عن أغلبية الطبقة العاملة. و غطس هؤلاء الشباب في ثقافة فرعية حيث تقوم المخدرات و السرقة بالمتاجر و التسول بدورها، و باتوا عرضة لاضطهاد من الملاكين العقاريين و الشرطة و السلطات، و محاطين بالتخيلات الشعبية الواهمة حول الوفرة و واقع الانحطاط المديني. و جعلت منهم ظروف حياتهم أعداء لكل سلطة و لكل انضباط و في الآن ذاتها مصدرا طبيعيا لفوضوية عفوية و غضوبة على نحو مبهم. قمنا، لحد الآن، بتشخيص أربع مجموعات اجتماعية تشكل جذورا اجتماعية للفوضوية: الحرفيون، و الفلاحون، و الطلاب، و الشباب العاطل. و القاسم المشترك بين هذه المجموعات هو موقعها الهامشي إزاء قلب الرأسمالية المنتج. هذه الهامشية تنتج الفقر، و الاضطهاد، و الإستيلاب و ميلا إلى التمرد بأشكال قصوى و عنيفة. لكنها تنزع عنها القدرة الكامنة، الاقتصادية كما السياسية، على تحطيم الدولة البرجوازية، و إطاحة علاقات الإنتاج الرأسمالية، و كذا القدرة على خلق نظام اقتصادي و اجتماعي جديد. إن مكامن ضعف و قوة الفوضوية بما هي أيديولوجيا تعكس على وجه الدقة مكامن قوة وضعف قاعدتها الاجتماعية. 6- الحصيلة التاريخية للفوضوية – باكونين يمكن أن نعثر على عناصر فكر فوضوية في فجر تاريخ الإنسانية، لأن الكائنات البشرية حلمت دوما بمجتمع الحرية و المساواة. لكن الفوضوية كأيديولوجيا و حركة محددين تعود، مثل الماركسية، إلى القرن التاسع عشر. و لا شك أن الفوضوية أعطت، خلال 150 سنة من وجودها، حصتها، و ربما أكثر، من الأبطال /ة – أفراد مشهورين ومغمورين، كرسوا حياتهم، وحتى وهبوها، للقضية الثورية. لكن ما من شك أن أوجه الضعف التي شخصنا في هذه الحركة انبعثت بشكل متواتر في الممارسة الفوضوية. من الجلي، في حدود كراسة كهذه، تعذر استعراض مجمل تاريخ الفوضوية، باعتبار تنويعاتها المتعددة و كل تعقيدها. و لن نسعى إلى ذلك. بل سنحاول بالأحرى إيضاح، ومن ثمة تعزيز، الحجة التي قدمنا بالرجوع إلى ثلاث فصول من تاريخها: نشاط باكونين في سنوات 1970، و الفوضوية خلال الثورة الروسية، ودور الفوضوية في الحرب الأهلية الاسبانية. ليست الغاية وضع حصيلة للفوضوية بجرد فضائح وخيانات و حماقات – وهذا لا فائدة منه و ومن اليسير إتيان نظيره في تاريخ الماركسية أيضا. المقصود فحص اللحظات الأساسية لتاريخ النضال الثوري بقصد دراسة الحقب الحاسمة في الممارسة الفوضوية. إذن، سيحاكم هذا النقد الفوضوية في مجال قوتها كما في مجال ضعفها. باكونين يمثل باكونين (1814-1876) على الأرجح الشخصية الأشهر في تاريخ الفوضوية. فلا شك أنه كان، بمظهره و أسلوب حياته و شغفه بالفعل، نموذج البطل الفوضوي الرومانسي. شارك شخصيا في انتفاضات مجهضة عديدة. و ُسجن مرارا عديدة، و تعرض لحبس انفرادي طيلة خمس سنوات في قلعة بيار و بول سيئة الذكر في روسيا القيصرية، وكان أكثر من غيره مؤسس الفوضوية بما هي اتجاه منظم و متميز في الحركة الاشتراكية. لكنه جسد بحدة خاصة التناقضات الملازمة للأيديولوجيا الفوضوية. وكان في هجماته على الماركسية، التي يصفها بـ"الدولانية" و "السلطوية"، وفي مختلف تصريحاته الغوغائية، يعتبر نفسه المعارض الأشد جذرية لكل سلطة، ولكل قيادة و لكل خضوع. هكذا، يصرح برنامج الحركة التي أسس، تحالف الديمقراطية الاشتراكية، بما يلي: " إننا، بصرخة السلام للعمال، و الحرية لكافة المضطهدين، و الموت للمسيطرين و المستغلين و المحافظين من كل نوع، نريد تدمير كل الدول و كل الكنائس وكذا كل مؤسساتهم و قوانينهم الدينية و السياسية و المالية و البوليسية و الجامعية و الاقتصادية و الاجتماعية، كي تتمكن أخيرا ملايين البشر المخدوعة، و المستعبدة، و المضطهدة و المستغلة، من التحرر من كل قادتها و من المحسنين الرسمين و شبه الرسميين الأفراد و الجماعات، و التنفس أخيرا بحرية". وصرح في العام 1871 قائلا: " بعبارة واحدة، نحن نرفض كل تشريع، وكل سلطة، و كلا السلطات الرسمية و الشرعية، ذات الامتيازات، التي ُ تمارَس علينا، حتى لو نتجت عن الاقتراع العام." و أضاف في العام 1872: " إننا نرفض، حتى لحاجات الانتقال الثوري، الاتفاقات الوطنية و المجالس التأسيسية، و الحكومات المؤقتة و الديكتاتوريات الثورية المزعومة". ومع ذلك، تعاطى باكونين في ممارسته السياسية الخاصة إلى التنظيم و إلى المؤامرات السرية و القائمة على التراتب و مبدأ الطاعة التامة لشخصه. و قد وصف مناهجه في رسالة شهيرة إلى المتآمر الروسي الشهير نيتشاييف قائلا: " يجب إرغام الجمعيات ذات الأهداف القريبة من أهدافنا على الاندماج مع جمعيتنا، أو يجب بالأقل أن تخضع لها بلا علمها، فيما يجب استبعاد العناصر الضارة. ويجب حل الجمعيات المناهضة لنا أو الضارة، و أخيرا يجب إطاحة الحكومة. لا يمكن أن نحقق هذا كله بنشر الحقيقة ، فالمكر و الدبلوماسية و الخداع أمور ضرورية... ". استعمل باكونين هذه التكتيكات للسعي إلى التحكم في جمعية العمال الأممية، الأممية الأولى. فقد انضم إليها باكونين مع أنصاره في العام 1869، و أعلنوا حل منظمتهم الخاصة، تحالف الديمقراطية الاشتراكية. و في الواقع، حافظوا على منظمتهم في شكل شبكة سرية. و كتب باكونين في العام 1872 إلى أحد أنصاره الايطاليين: " اعتقد انك ستدرك، آجلا أو عاجلا، ضرورة تأسيس نوى [داخل فروع الأممية] من الأعضاء الأشد إخلاصا، وذكاء، و قدرة، أي باختصار الأقرب إلينا. سيكون لهذه النوى، المترابطة بقوة فيما بينها ومع نوى أخرى شبيهة بمناطق أخرى بايطاليا أو بلدان أخرى، مهمة مزدوجة. فمن جهة، ستشكل الروح الملهمة و المنعشة لهذا الجسم الكبير المتمثل في جمعية العمال الأممية، لكنها ستمارس تـأثيرها خارجها. و ستكرس نفسها لمسائل يتعذر عرضها ومعالجتها أمام الملأ... و اعتقد أنى قلت ما يكفي لأشخاص لهم ما لأصدقائكم من ذكاء... و طبعا لن يضم هذا التحالف السري في صفوفه غير أفراد قليلين جدا ". ليس هذا التناقض بين المبادئ المعلنة و الفعل نابعا من مجرد ميل لدى باكونين إلى السيطرة. إنه في الواقع تجسيد حي للتناقض الملازم لرفض الفوضوية كل قيادة: بعبارة أخرى، بدل قيادة منتخبة ديمقراطية و قابلة للعزل، ليس ثمة لدى الفوضويين غياب القيادة بل قادة غير ديمقراطيين، غير منتخبين و لا قابلين للعزل. كان تآمر باكونين السري ينتهك مبادئ الفوضوية ذاتها، و لم يكن بوسع منهجها في قيادة الثورة العمالية أن يفضي سوى إلى الكارثة. لا يمكن لمجموعة أشخاص منتقاة بدقة متناهية أن تفهم و عي الطبقة العاملة و لا أن تؤثر فيه. و بالتالي أدى التآمر إلى النزعة الانقلابية، أي محاولة أقليات صغيرة إطلاق انتفاضات بمعزل عن فعل أغلبية العمال و تطلعاتهم. شارك باكونين في العديد من تلك المغامرات، إحداها في ليون، مفضية كلها إلى إخفاقات مثيرة للرثاء. في ليون، عام 1870، فيما تهب ريح تمرد شعبي، احتل باكونين وأنصاره مقر البلدية و أعلنوا لجنة خلاص وطني و إلغاء الدولة. و للأسف رفضت الدولة قبول إلغائها، و قامت، عبر إرسال فرق الحرس الوطني، بإلغاء انقلاب باكونين. واضطر هذا الأخير إلى الفرار إلى جينوة. و انعزل عن كل إمكانية للمشاركة في الثورة العمالية، كومونة باريس، التي انفجرت في السنة اللاحقة. ومن الوقائع الجديرة بالاهتمام، أن باكونين لم يطبق مفهومه عن السلطة الخفية على تنظيم الحركة الثورية وحسب، بل حتى على تنظيم مجتمع ما بعد الثورة. ففقد شرح في رسالة إلى صديقه و نصيره، البير ريشار، كيف سيشكل هو و أنصاره، فور إلغاء الدولة "ديكتاتورية خفية" قائلا: إذ نرفض كل شيء، ما السلطة، أو بالأحرى ما القوة التي سنقود بها الثورة الشعبية؟" و يجيب باكونين:" بواسطة قوة خفية لا يعترف بها أحد، و لا تفرض نفسها على أحد، بواسطة الديكتاتورية الجماعية لمنظمتنا التي ستكون قوية بقدر ما ستظل خفية و غير معروفة و بلا أي حق أو موقف رسميين". هذا التصور لسلطة خفية وهمي، يجب رفضه. لأن تطبيقه سيولد عمليا أسوأ سلطة غير ديمقراطية يمكن تصورها. أخيرا، يجسد باكونين، بدوره التحريضي، مختلف الجذور الاجتماعية لفوضوية القرن التاسع عشر التي وصفناها في الفصل السابق. استمد إلهامه الأول من غيظ التمردات الفلاحية و عنفها، لا سيما تلك التي قادها ستينكا رازين و بوغاتشيف في مسقط رأسه روسيا. و أضفى مثالية على صعاليك القرى معتبرا إياهم " منصفي الشعب و الأعداء الألداء للنظام و الدولة، والثوريين الحقيقيين الوحيدين- الثوريين الذين لا يصنعون جملا و خطابة كتب" في العام 1867 وجه باكونين اهتمامه، و اهتمام أنصاره، نحو رابطة السلم و الحرية، وهي منظمة برجوازية بقيادة جون ستيورات ميل [**]. وبسرعة خاب أمله من عداء البرجوازيين لأفكاره ، فاتجه صوب الأممية الأولى و "تبنى" خلال فترة البروليتاريا. و حصل داخل الأممية الأولى على مسانديه الرئيسيين من الحرفيين القرويين في فيدرالية جورا بسويسرا و جنوب ايطاليا، وهي منطقة بأغلبية فلاحية. كما اهتم كثيرا بالطلاب و المثقفين المتمردين" الشباب المفعمين بالنشاط و الحماس، و المنفصلين طبقيا كليا، لا مهنة لهم و لا منفذ". و بعد طرده من الأممية في العام 1872، ندد باكونين بمفهوم الطبقة العاملة الماركسي، معتبرا انه" سيطرة أرستقراطية لعمال المصانع و المدن على ملايين الناس الذين يشكلون البروليتاريا القروية". قد ينكر بعض الفوضويين باكونين. لكن، كما سنرى، ستطفو العيوب الأساسية للباكونينية في فوضوية القرن العشرين، حتى في لحظات مجدها. 7- الفوضويون خلال الثورة الروسية كما هو متوقع في بلد ذي أغلبية فلاحية مثل روسيا، جاء التقليد الفوضوي قبل الماركسية. لكن اللافت للنظر أنه لم يكن للفوضوية غير دور ضئيل في ثورة 1917 الروسية. كانت تلك الثورة أهم الثورات و أعمقها. لم تبلغ قط طبقة عاملة مستوى ما بلغ عمال روسيا 1917 وجنودها من نضال ووعي سياسي. ومع ذلك كان تأثير الفوضوية في هذه الحركة العظيمة ضعيفا. عندما عاد فولين، أهم المثقفين الفوضويين آنذاك، إلى روسيا في يوليو 1917، لم يجد حتى جريدة ولا ملصقا، و لا خطيبا فوضويا واحد في بيتروغراد، قلب الثورة. ولم يكن الفوضويون ممثلين في مجالس العمال (السوفييتات). وكانت مقرراتهم المقترحة في لجان المصانع تُمنى بالهزيمة منهجيا من قبل المقررات البلشفية المدعومة من أغلبيات عريضة. ثمة سببان يفسران ضعف الفوضويين. أولهما، دور البلاشفة. فبوجه عام، تطورت ذهنية فوضوية في أقسام من الطبقة العاملة عندما كانت قيادة الحركة العمالية خائنة و العمال خائبي الأمل. و في العام 1917 أعطى البلاشفة قيادة ثورية واضحة و كسبوا دعم كل العمال المناضلين تقريبا. ثانيا، كانت فترة فبراير إلى أكتوبر 1917 فترة ازدواجية سلطة، أي صراع بين دوليتين متنافستين. من جانب، ثمة بقايا الدولة القيصرية القديمة، بجيشها، و بيروقراطيتها، بقيادة الحكومة المؤقتة. ومن جانب آخر، تنتصب مجالس العمال و الجنود. وكانت تظفر كل يوم بقوة و سلطة متزايدتين. و كانت المسألة الحاسمة (و المسألة الوحيدة في آخر المطاف) هي أي دولة ممثلة لأي طبقة ستتغلب؟ هل سيتمكن جهاز الدولة القيصري/ الرأسمالي القديم من سحق مجالس العمال و الطبقة العاملة؟ أو على العكس، ستتمكن هذه الأخيرة من تحطيم آلة الدولة القديمة لنقل كامل السلطة إلى مجالس العمال؟ انتهت كل القوى التي تذبذبت بصدد هذه المسألة (حكومة كيرينسكي، المناشفة، الخ) حتما إلى العجز. و تهمش الاتجاه الفوضوي الذي كان يرفض، من حيث المبدأ، كل دولة. تنكرت أغلبية أنصاره لأيديولوجيتهم ليصبحوا أنصار فاترين للسوفييتات، أو قطعوا مع تيارهم الأصلي و انضموا إلى البلاشفة. رفض البعض السوفييتات، مثل المحارب القديم كروبوتكين ( الذي سبق أن فقد الاعتبار بسبب مساندته للامبرياليات الروسية و الانجليزية و الفرنسية إبان الحرب العالمية الأولى). و تماثلوا أكثر فأكثر مع الحكومة المؤقتة الممقوتة. فقط بعد الثورة، خلال الحرب الأهلية التالية، تمكنت الفوضوية من القيام بدور مستقل في الأحداث. لقد مثلت الحرب الأهلية حقبة مصاعب حادة للثورة و معاناة مهولة للشعب الروسي. إذ كان محاصرا من كل جانب. و استفادت الجيوش البيضاء، بقيادة الجنرالات الأشد رجعية ، من أموال و أسلحة و تعزيزات كل قوى الرأسمالية العالمية ، و كانت على وشك أن تسيطر على مدينة بتروغراد و القضاء على الدولة العمالية الفتية. و فضلا عن الخراب الناتج عن الحرب العالمية الأولى، و الأزمة الاقتصادية لعام 1917، و الاختلال المترتب حتما عن الثورة، و الخسائر الهائلة التي تكبدتها روسيا بفعل اتفاق بريست ليتوفسك، أضافت الحرب الأهلية حصتها من الفوضى، مبتلعة العديد من قوى الثورة الحية. كما سببت انهيارا تاما للاقتصاد السوفييتي. و كفت الصناعة عمليا عن كل اشتغال. و انهار نظام النقل. ونفذ ت محروقات نظام التدفئة بالمدن. و اضطر العمال إلى الهروب إلى القرى بحثا عن أغذية. و أنجزت أوبئة الكوليرا و التيفوس دمارها. أفلح البلاشفة، رغم كل شيء، في الصمود و الظفر في هذه المعركة. و يدل هذا على مخزون المساندة الكبير الذي حازوا داخل الطبقة العاملة. لكن الفوضوية قد تحظى، في هكذا ظروف، بصدى في بعض أقسام الطبقة العاملة، و أكثر من ذلك داخل الفلاحين، فاقدي الوجهة بفعل ما قاسوا من حرمان متعدد. وكان الاستياء قويا على نحو خاص بين الفلاحين. في العام 1917 كان الفلاحون انتزعوا الأرض من مضطهديهم منذ قرون، الملاكين العقاريين. وكان البلاشقة قد ساندوهم، موحدين تمرد الفلاحين في القرى و الثورة العمالية بالمدن. لكن ، خلال الحرب الأهلية، كانت الدولة العمالية مضطرة إلى مصادرة قمح الفلاحين بقوة السلاح. ولم يكن أمامهم خيار آخر - ما عدا خيار ترك المجاعة تجتاح المدن و تسهيل هزم الثورة. و حتما دفع ذلك الفلاحين إلى مناهضة الحكومة. و طالما كانت رحى الحرب الأهلية تدور، كان خطر عودة فورية للملاكين العقاريين يضمن ولاء جماهير الفلاحين لدولة المجالس العمالية. لكن فور نهاية الحرب الأهلية، انفجر غضب الفلاحين. ونتجت عنه ظاهرتان مهمتان تاريخيا، مرتبطتان بالفوضوية، و تبناهما التقليد الفوضوي: حركة ماخنو و تمرد كرونشتاد. كان نيستور ماخنو فوضويا أوكرانيا شابا. و جمع حوله جيشا حارب، بشجاعة ونجاح، الجيوش البيضاء في البداية ثم الجيوش الحمراء. وقد فكك الجيش الأحمر جيوش ماخنو في نهاية الحرب الأهلية. كانت كرونشتاد قاعدة بحرية في جزيرة. وكانت تتحكم بمدخل بتروغراد البحري. وكان بحارتها قاموا بدور قائد في ثورة 1917. وفي مارس 1921، أطلقت كرونشتاد تمردا عسكريا ضد البلاشفة، مطالبة بنهاية مصادرة القمح و بـ"سوفييتات بلا شيوعيين"، وكان الشعار بالأحرى "سوفييتات حرة". جرى استعمال هذه الحجة من قبل اليسارويين بوجه خاص لإفقاد البلاشفة الاعتبار. وخشية أن يمهد التمرد طريق عودة الحرب الأهلية التي هدأت مؤخرا، رد البلاشفة بقوة، وأرسلوا الجيش الأحمر إلى الجليد و استولوا على الجزيرة بعد معركة دامية. صنعت الفوضوية أسطورة من حركة ماخنو و من تمرد كرونشتاد، معلنة أنهما تعبيران عن " ثورة شعبية تحررية حقيقية". لكن الواقع مغاير تماما. رغم إبدائه انجذابا للتصريحات الفوضوية المدوية، كان ماخنو قائدا فلاحيا مستبدا، و قائدا عسكريا ينفذ الإعدام في معارضيه بلا محاكمة (لاسيما الشيوعيين)، ومتعاطيا لعربدات كحولية. إن الحكم الأكثر دلالة حول الطبيعة الحقيقية لماخنو ولحركته هو على الأرجح حكم مؤرخ متعاطف مع قضيته ، جورج وودكوك الذي قال: "كان ماخنو في العمق رجلا قرويا، و بنزعة إقليمية، يكره المدن و الحضارة المدنية و يتوق إلى " البساطة الطبيعية"، متمنيا العودة إلى عصر مثل الماضي المجمل في الأساطير الفلاحية، حيث "العاملون الأحرار" يشتغلون تحت أنغام "أغنيات حرة و بهيجة". هذا ما يفسر عدم اهتمام أتباع ماخنو أبدا ،عندما استولوا على عدد من المدن الكبيرة، بمسألة تنظيم الصناعة، ولم يظفروا بدعم وولاء سوى بعض العمال المدينيين. "لكن كان ثمة بهذا الوضع عامل آخر: الجيش الانتفاضي الثوري. كان هذا الجيش، من الناحية النظرية، تحت تحكم مؤتمر الفلاحين و العمال المنتفضين. لكنه كان عمليا تحت تحكم ماخنو و قادته. وكباقي الجيوش، لم يكن تحرريا إلا بالاسم. إذ كان يستعمل شكله الخاص من التآمر و يطبق انضباطا بالغ الصرامة: كان ماخنو سيد الجيش. كانت العقوبات سريعة و بالغة القسوة... وحتى أنصاره، مثل فولين كانوا معجبين بهذه الوقائع. و على غرار تمرد ماخنو، تبنى تمرد كرونشتاد بعض الشعارات التحررية مثل الدعوة إلى "ثورة ثالثة"، و جذب دعم بعض الفوضويين. لكن جذوره كانت تمتد في معارضة الفلاحين لمصادرة القمح في حقبة" شيوعية الحرب". لم تكن ثكنة كرونشتاد في العام 1921 ما كانت في العام 1917. كان تركيبها الطبقي قد شهد تحولات كبرى. إذ كان العديد من قدماء محاربي السنة الثورية قد توفوا في جبهات القتال ضد الجيوش البيضاء. وحل مكانهم مجندون جدد وصلوا حديثا من القرى. و كان عدد منهم، مثل 2500 أوكراني بكتيبة الرماة المائة و الستين،قادمين من مناطق ودية بنحو خاص إزاء ماخنو. لكن الفلاحين لم يكونوا قوة اجتماعية قادرة على التقدم بالثورة. فارتباطهم بالملكية الخاصة، و بمزارعهم، و فردانيتهم الناتجة عن نمط إنتاجهم، و عزلتهم الجغرافية و السياسية عن قوى الإنتاج الأساسية بالمدن، و ظروفهم حياتهم المادية، كلها تجعلهم عاجزين عن إتيان بديل وطني ( ناهيك عن العالمي) للسلطة البلشفية. لا يمكن قيادة المجتمع الحديث، و لا تنظيمه، اعتمادا على القرى. والفلاحون يتبعون حتما هذه أو تلك من الطبقات المدينية الرئيسة. كانت هذه الحقيقة العامة تطبق بقوة خاصة على روسيا. فطالما كان التمرد الفلاحي موجها ضد القيصرية و الملاكين العقاريين، ومتحالفا مع الحركة العمالية بالمدن، كان تقدميا بشكل كبير. لكن لما كان موجها ضد السلطة العمالية المدينية، أو بقايا تلك السلطة ممثلة بالبلاشفة، فقد كان رجعيا حتى النهاية. وباستقلال عن الراية المرفوعة، حمراء أو خضراء او سوداء مثل راية الفوضوية ، لم يكن لتمرد فلاحي متطلع إلى تحطيم "الديكتاتورية الشيوعية" إلا أن يفتح طريق إعادة الرأسمالية أو القيصرية. بفعل موقعه الاستراتيجي على مشارف بتروغراد، كان من شأن تمرد كرونشتاد، لو انتصر أو استمر أمدا أطول، أن يمنح البيض، المهزومين حديثا، فرصة لإعادة إطلاق الحرب الأهلية. ذلك ما أدركه البيض فورا، فجمعوا قواهم بقصد إرسال مواد غذائية ومساعدات إلى كرونشتاد. ووضعوا خطط لإيصال تعزيزات في حالة نجاح التمرد. كان الفوضويون الروس و الأجانب يساندون كرونشتاد. أبرز ذلك بلبلتهم بصدد ولائهم الطبقي. وكانوا عاجزين عن تحليل الوضع طبقيا، و غير مبصرين للوضع بسبب نظريتهم الطوباوية حول ثورة بلا دولة. تلكم حصيلة الفوضوية في تاريخ أعظم الثورات: لم يكن لها أي تأثير خلال طورها الصاعد، و عندما تراجعت اعطت دعما لاواعيا لكنه فعلي للثورة المضادة. 8- الفوضويون في الثورة الاسبانية إن كانت الثورة الروسية أعظم ثورات القرن العشرين، فقد كانت الثورة الاسبانية في 1936-1937 إحدى منافساتها الأكثر جدية. و في هذه الحالة، الفريدة في تاريخها، بدأت الفوضوية انتفاضة ثورية فيما كان تحظى بدعم جماهيري: في العام 1936كان الاتحاد النقابي الفوضوي CNT يعلن عدد أعضاء يبلغ المليون، و يمثل إلى حد بعيد أهم اتجاه في الطبقة العاملة. يمكن إذن، على نحو مشروع، اعتبار الثورة الاسبانية امتحانا أساسيا للفوضوية. وقد أفلست، لكن ليس بسبب العمال الفوضويين و لا شك. فقد كافح هؤلاء من أجل القضية بشجاعة وروح تضحية خارقين للمألوف. و نتجت الهزيمة بالأحرى عن العيوب الملازمة للفوضوية بما هي إستراتيجية ثورية. بدأت الثورة الاسبانية في يوليو 1936 ردا على التمرد الذي قاده الجنرال الفاشي فرانكو ضد حكومة الجبهة الشعبية المنتخبة مؤخرا (تحالف الحزب الشيوعي و الحزب الاشتراكي و البرجوازية الجمهورية). رغم جمود الحكومة، انتفض العمال الإسبان، و أغلبهم يدينون بالولاء للفوضوية، لوقف الفاشيين. و حاصر عمال مسلحون ثكنات الجيش في مدريد و برشلونة، ودعوا الجنود إلى الانقلاب على ضباطهم. وبعد يوم من المعارك سقطت الثكنات في برشلونة، و في اليوم التالي في مدريد. و في بضعة أيام سيطر العمال كليا على المدن. و ازدهرت لجان عمالية من أجل تنظيم النقل، وتوزيع الأغذية، و خدمات الصحة و الميليشيات. و أرسلوا فيالق مسلحة إلى القرى بقصد الحصول على تموين و مساندة حركة شغيلة الزراعة. و انتزع التنظيم الجماعي لتسيير المجتمع النساء من عقود الاستغلال و الاضطهاد. ولم يتحسن وضع النساء بأي مكان بالعالم مثلما تحسن في برشلونة. إذ جرى إضفاء الشرعية على الإجهاض، و توافرت المعلومات حول التحكم في الولادات، و تم إقرار نوع جديد من الزواج بلا إكراه و بحرية الطلاق. و يحكي جورج أوريل الشاهد على الأحداث قائلا: " فوق كل شيء ساد الإيمان بالثورة و بالمستقبل، و شعور بالإنبجاس فجأة في عصر مساواة وحرية. كان البشر يحاولون التصرف ككائنات بشرية و ليس كدواليب في الآلة الرأسمالية." وكانت الطاقة الكامنة من أجل ثورة عمالية ظافرة هائلة. لكن الخطر الفاشي ظل قائما. وكان فرانكو سيطر على الجنوب الغربي لاسبانيا ، وكان فاشي آخر، الجنرال مولا، يقود هجوما بالشمال. لكن كان ثمة أيضا تهديد الحكومة الجمهورية البرجوازية التي كانت، شكليا، تمسك السلطة في كاتالونيا ( قلب الثورة) و في مدريد. ماذا فعل القادة الفوضويون؟ انضموا إلى هذه الحكومة، في كاتالونيا أولا في سبتمبر 1936، ثم في مدريد في ديسمبر. وكان ذلك الانضمام قطيعة مع المبادئ الفوضوية، وأيضا، على نحو مأساوي أكثر، خيانة للطبقة العاملة و للثورة. كانت حكومة الجبهة الشعبية التي انضم إليها القادة الفوضويون مخلصة، جسدا وروحا، للحفاظ على الملكية الخاصة وعلى النظام الاجتماعي الرأسمالي، وبنفس القدر لإعادة سلطة الدولة الرأسمالية الجمهورية. وكانت تدعو إلى تشكيل وحدة عريضة متعددة الطبقات لكل القوى الديمقراطية في النضال ضد فرانكو، و تنادي بتجميد المطالب العمالية الرامية إلى تغييرات اجتماعية أساسية حتى ما بعد إنزال الهزيمة بالفاشية. كان هذا الموقف ُيرضي ممثلي البرجوازية بالحكومة: بنظرهم كان انتصار الفاشية، في آخر التحليل، أهون شر بوجه انتصار الطبقة العاملة. ولم يتعاونوا إذن مع اليسار إلا بشرط ضمان الملكية الخاصة. إما الحزب الاشتراكي، فقد كان ذلك الموقف يعبر عن إرادته القديمة و الدائمة في التعاون مع البرجوازية. أما الحزب الشيوعي، فقد كان ذلك الموقف بالنسبة إليه سياسة مفروضة من موسكو بقصد تفادي إزعاج أو إفزاع الحكومتين الفرنسية و الانجليزية اللتين كان ستالين يغازلهما من أجل تحالف ضد هتلر. على هذا النحو، انضم القادة الفوضويون إلى حكومة (وتحملوا بها مسؤوليات) كان هدفها احتواء و تحجيم انتفاضة الطبقة العاملة الاسبانية. ومن جراء ذلك ذاته، كان يقبلون مسؤولية إستراتيجية تحكم عمليا على النضال العمالي بالهزيمة، و ليست كما ادعوا تعزز النضال ضد الفاشية. إن حربا ضد الفاشية تُخاض كحرب تقليدية كانت في النهاية تتيح انتصار فرانكو المدعوم من الآلات العسكرية الموسولونية و النازية. كان السبيل الذي قد يضمن النصر للقوى المناهضة للفاشية هو تحويل الحرب إلى ثورة، و الفسح في المجال لطاقة الجماهير و مبادرتها، و تعبئة عمال و فلاحي المناطق الواقعة تحت سيطرة الفاشيين، بالخطابات كما بالأفعال، و نسف قاعدة فرانكو في المغرب (حيث كان أطلق انقلابه) بإعلان استقلال تلك المستعمرة. أدارت حكومة الجبهة الشعبية الظهر لكل هذه التدابير و استفادت من دعم القادة الفوضويين، الذي كانوا إلى حد بعيد يمثلون الاتجاه الأكبر نفوذا في الحركة العمالية الاسبانية. لذا يتمثل السؤال الحاسم في معرفة سبب تصرف القادة الفوضويين على ذلك النحو الخائن. هل هو ضلال ناتج عن مبادرات محض فردية؟ أم كان نتيجة أوجه الضعف الملازمة للفوضوية؟ لقد أجاب القادة الفوضويون على هذه الأسئلة. و سعيا إلى تبرئة أنفسهم، تذرعوا بوضع استثنائي (خطر الفاشية) و شرحوا قائلين: "إما أن نتعاون، أو نفرض ديكتاتوريتنا... وما من شيء ابعد من الفوضوية من فرض الإرادة بالقوة.. " لم نستول على السلطة، لا لعجزنا عن ذلك، بل لعدم رغبتنا فيه، لأننا كنا ضد كل شكل من الدكتاتورية." بعبارة أخرى، كان الوضع ميؤوسا منه، و الثورة المضادة على أبوابنا. و لابد لمواجهتها من قيادة، وتنسيق و سلطة. لا يمكن أن تكون هذه السلطة غير الدولة البرجوازية القائمة أو دولة عمالية، ديكتاتورية البروليتاريا. لكن، ما دام الفوضويون يرفضون ديكتاتورية البروليتاريا، لم يبق خيار غير الاصطفاف إلى جانب الدولة البرجوازية. إن المنطق الصارم الفاعل هنا لا يقتصر على اسبانيا 1936، بل تكرر و سيتكرر في كل وضع ثوري حقيقي. سيكون خطر الثورة المضادة قائما دوما، و سيكون الخيار الحقيقي دائما هو بين سلطة برجوازية و سلطة عمالية. وحتما سيفضي رفض ديكتاتورية البروليتاريا إلى الاستسلام في اللحظة الحاسمة. و لذا، ليس المثال الاسباني، الذي يشكل ذروة الفوضوية كحركة جماهيرية، حادثة و لا ضلالا. انه يمس قلب الفوضوية، مبرزا عدم ملاءمتها الكلية لتكون مرشدا للفعل الثوري. 9- خلاصة: كيف نتقدم؟ يمكن تلخيص نقد الفوضوية المعروض في هذه الكراسة كما يلي: لا يمكن للفوضوية أن تنجح. لكن، كما لا تُزاح نظريات علمية خاطئة إلا بوجود نظريات أرقى تحل مكانها، و ليس نقد الفوضوية حاسما إلا بوجود بديل يتيح انتصار الثورة. هذا البديل هو، بالمقام الأول، الطبقة العاملة. الثوريون الجديون لا يضفون مثالية على العمال. و لا يتخيلون أن مجرد العمل في مصنع أو مكتب يجعل الشخص أكثر نبلا أو استنارة. و لا يتبنون صورة العامل البطل، بعيون زرق و خدود هزيلة ، كما تقدمه اللوحات الستالينية. نجد ضمن عمال هذا المجتمع الخمول و البلادة و السلبية و قصر النظر، و الغضب الموجه وجهة خاطئة، و عيوب أخرى كثيرة نجدها داخل كل طبقة عرضة لاضطهاد مستمر. ليس الوضع الراهن لوعي الطبقة العاملة هو الذي يمدها بالقدرة الكامنة على تدمير الرأسمالية و خلق مجتمع جديد، بل وضعها الاقتصادي و الاجتماعي الموضوعي. الطبقة العاملة نتاج فريد و متميز للرأسمالية. إنها تنمو و تتسع بقدر نمو النظام واتساعه. كتب كارل ماركس في العام 1948 أن المجتمع ينقسم أكثر فأكثر إلى معسكرين خصمين، إلى طبقتين اجتماعيتين كبيرتين متواجهتين: البرجوازية و البروليتاريا. في تلك الحقبة، كانت البروليتاريا منحصرة في شمال غرب أوربا. وكانت تشكل أغلبية المجتمع في بريطانيا و في بلجيكا وحدهما. أما اليوم فقد باتت الطبقة العاملة قوة جماهيرية، من ساو باولو بالبرازيل إلى سيول في كوريا، من ستوكهولم بالشمال إلى سويتو بالجنوب. إن التصورات التي أصبحت موضة ومؤداها أن الطبقة العاملة سائرة إلى زوال تنطوي على خطأين. أولاهما اعتبار الطبقة العاملة مكونة حصرا من العمال اليدويين في الصناعة، و ليس من كل الذين لا يعيشون إلا ببيع قوة عملهم. يجري الخلط بين قسم من الطبقة و الطبقة برمتها. ثاني الأخطاء هو قَصر النظر على أوربا و أمريكا و تجاهل سيرورة التصنيع و التمدين الهائلة التي جرت بمختلف ربوع الكوكب، من أمريكا اللاتينية إلى الشرق الأوسط، ومن أفريقيا إلى جنوب شرق آسيا. في الواقع، تشكل الطبقة العاملة أغلبية سكان كل البلدان الرأسمالية المتقدمة، و بالأقل أقلية قوية سائرة إلى تشكيل أغلبية بالبلدان الأخرى ما خلا بلدان العالم الثالث الأقل تطورا. الطبقة العاملة طبقة مستغلة. و لا يمكن أن تعيش الرأسمالية إلا بالربح الذي تستخلص يوما بيوم من كدح العمال. هذا جذر الصراع، غير القابل للتوفيق، بين العمال و أرباب العمل، حول مسألة الأجور، ومدة العمل و شروطه. و يستمر هذا الصراع سواء كان الأجر منخفضا أو غير منخفض ( الواقع أن العمال المؤهلين ذوي الأجور الجيدة غالبا ما يكونون الأكثر عرضة للاستغلال، لان فائض القيمة المستخلصة من عملهم أكبر). هذا مصدر الصراع الطبقي، الذي يمتد إلى كل أوجه الحياة الاجتماعية. لدى الطبقة الرأسمالية مناهج عديدة في هذا الصراع، من التنازلات المؤقتة حين تكون بوسعها، إلى القمع الدموي عندما تتعذر التنازلات. لكن طالما وجدت الرأسمالية، لا يمكن استئصال الصراع الطبقي و ستحافظ الطبقة العاملة دوما على قدرتها الكامنة على التمرد. عندما يندلع هذا التمرد، تدل الطبقة العاملة على قدرة اقتصادية و سياسية غير متناسبة مع أعدادها، على نحو يجعلها، حتى في البلدان حيث لا تزال أقلية، مثل روسيا 1917 أو الصين و الهند اليوم، تبقى الطبقة الثورية الرئيسية. تنبع هذه القدرة من كون سيرورة الإنتاج و التوزيع و الاتصال الرأسمالية متوقفة على العمال. فبدون التعاون النشيط، لن تحلق أي طائرة، و لن تشتغل الهواتف، ولن تصل الرسائل إلى وجهتها. أخيرا، الطبقة العاملة طبقة جماعية. فالح
29 février 2012
3
29
/02
/février
/2012
15:25
صدر العدد الثاني من جريدة الخط الامامي لسان حال تيار اليسار الثوري في سوريا للاطلاع عليه آو تحميله يرجى الضغط على الرابط التالي :
21 février 2012
2
21
/02
/février
/2012
21:36
Présentation
RechercheArticles Récents
Liens |